(15) تمثال سياسي في تونس:
إنَّ الغاية المقصودة من عمل التماثيل هي إحياء ذِكْر عظماء الرجال الذين أتوا من جلائل الأعمال ما يُخَلِّدُ لهم الذّكْرَ الحَسَنَ على مَرِّ الليالي وتعاقب الأجيال.

فهي إذن عبارة عن صحيفة تاريخية قام فيها التمثال مقام الكلمات والجُمَلِ، فإذا وقفنا أمام تمثال “جاندارك” في فرنسا قرأنا بعين الذكرى في هذه الصورة المُجَسَّمَةِ تاريخ حياة هذه المرأة التي فعلت فِعْلَ الأبطال في خلاص فرنسا من مخالب الإنكليز.

وإذا وقفنا أمام تمثال محمد علي باشا، وإبراهيم باشا قرأنا أيضًا مبدأ دخول مصر في عصر جديد بعد أن مَرَّتْ عليها العصور التي قامت فيها أنواع الظلم التي لا تَقْدِر يَدُ كاتب على تدوينها؛ لِمَا فيها من الفظائع الوحشية اتي ترتعد لها الفرائص، وتقشعرُّ الأبدان، وتصفر الأنامل، وهكذا الأمرُ في كُلِّ تمثال على هذا المنوال.

ولا يَخْفَى ما في هذا من الفائدة العائدة على الأمَّة التي تنصب تماثيل عظماء رجالها؛ إذ بتذكرهم أعمالَ مَنْ نُصِبَ التمثالُ على صورته تنبعث فيهم الهمم إلى الاقتداء به أو الافتخار بما فعله، وهذا لا يكون إلَّا في الأمم الحيَّة حياة أدبية، أما إذا كان الأمرُ بالعكس فهو من قبيل إماتة النفوس وبذر بذور الجُبن فيها.

وقد يَجُوزُ أنَّ الأمَّة التي يُقام في أرْضِهَا تِمْثَالٌ يُذَكِّرُهَا بما تتألّم منه نفوسها، فينتقل ضعفها إلى قوة وتهوُّر فتنزع إلى محو هذا العار.

فلو عُمِل تمثال يمثِّل فصل السودان عن مصر لعمَّ الفساد في البلاد بما يكون سببًا في إثارة الأحقاد في النفوس وهياج الخواطر، وإذا كانت الأمَّة ترسُفُ في قيود الاستكانة والذل فإن الحقد يكمُن في صدرها كمون النار في الحجر الصوَّان، حتى تولد الأيام حوادث تكون بمنزلة قدح الزناد.

ومِمَّا لا بأس من ذكره هنا على سبيل الاستشهاد في هذا النحو ما رُويَ أنه وقعت حرب بين الأوس والخزرج في موضع يُقال له بُعَاث، كانت الغلبة فيها للأوس على الخزرج، ثُمَّ تصالح الفريقان وزالت الأحقاد من الصُّدور، واتُّفق أن بعض رجال من القبيلتين كانوا جُلُوسًا في مكان يتحادثون وهم في وفاق تام، فمَرَّ بهم شاس بن قيس اليهودي فأراد أن يبُثَّ بينهم فِتَنًا تُنَفِّرَهُمْ عن بعضهم فأرسل لهم رجلًا يُذكِّرَهُمْ بيوم بعاث وأنشدهم بعض ما قيل فيه من الشِّعر في هذا اليوم؛ فحينئذٍ هاج القَوْمُ وقالوا: السَّلاحَ السَّلاحَ، فجاء النَّبِيُّ -صلى الله تعالى عليه وسلَّم- ونهاهم عن فِعْلِ الجاهلية؛ فرجعوا عمَّا كانوا عزموا عليه وتصالحوا وعرفوا أنها نزغة شيطانية، وبسبب هذه الحادثة نزل قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ".

والذي يعلم مقدار ما كان عليه المُسْلِمون في ذلك العهد من اتحاد الكلمة يعرف مقدار التأثير من ذكر الحوادث المؤلمة للعواطف المثيرة للأشجان على اختلاف الأسباب الباعثة على الذكرى.

هذا، وإني حين قدومي على تونس رَأَيْتُ بالقرب من الميناء حديقة صغيرة فيها تماثيل خمسة أشخاص، وهي: رجل واقف وأمامه امرأة واقفة باسطة يديها إليه، ورجل آخر ينظر إليها نظر المُنكِر وبيده شيء يشبه الفأس أو البلطة، وبجانبهم غلامان ينظر أحدهما في كتابٍ بيد الآخر الذي يشير بإصبعه في الكتاب كأنه يعلِّمه القراءة فيه.

فسألتُ صاحبي عن هذه التماثيل وهذه الرُّمُوز فقال: أمَّا الرجل الأول فإنه يمثِّل دولة فرنسا، وأما المرأة فتمثِّل تونس، وأما الرجل الآخر فإنه إيطالي يمثل دولته التي كانت طامعة في أخذ تونس قبل فرنسا، وكانت ساعية جهدها في احتلالها، ثُمَّ انعكس عليها الأمر بفوز فرنسا عليها، فكان هذا الرجل الإيطالي ينظر إلى تونس نظر المُنكِر المُستغرِب إلى مَنْ وعده بشيء وعدًا أكيدًا صادقًا فحَرَمَهُ منه ثُمَّ أعطاه لغيره، وأمَّا الغلامُ الذي بيده الكتاب فهو شاب فرنسوي يُعَلِّم شابًّا تونسيًّا القراءة في هذا الكتاب إشارةً إلى أن فرنسا ستجعل للغتها شأنًا عظيمًا في تونس كما فعلت في الجزائر، فلما أن سمعت منه ذلك لم أرغب أن أزيد عن سؤالي الأول كلمة في شأن سياسة فرنسا شأن القادم على بلد لم تطأه قدمه من قبل، ولم يعلم شيئًا عن أحوال ساكنيه الاجتماعية.

ولم يكد يمضي عليَّ أسبوع، حتى شاهدت ذات ليلة موكبًا حافلًا بالجُنْدِ وهم يحملون الأعلام، والمصابيح، والموسيقى تصدحُ أمامهم، فلم أشك في أنه أحد الاحتفالات الوطنية أو موكب زفاف عروس لأحد الأمراء، ولَمَّا سألتُ قيل لي: إنه احتفال بتذكار اليوم الذي دخلتْ فيه جنود فرنسا تونس، ففي مثل هذا اليوم من كُلِّ أسبوع يُعمل هذا الاحتفال رسميًّا ويطوف الجُنْدُ بهذا الشكل في شوارع المدينة الكبرى.

فلم أشأ أيضًا أن أحكم على سياسة فرنسا في تونس بحكم لأني لم أكن عرفت شيئًا عنها، ولكن بعد أن مكثت أيامًا عرفت فيها بعض ما جرى على يدها من شئون البلاد التونسية فإذا تلك التماثيل والرموز لا معنى لها في الوجود، وإنما هي رموز وُضِعت لإيهام الوافد إلى تونس من الخارج بأن فرنسا قد احتلت هذه البلاد برضا أهلها، وأنهم راضون بما أجرته من الإصلاح، وأن هذا الترحيب منهم دليل على رضاهم، وأنها رَدَّتْ عنهم مطامع إيطاليا، وكذلك في الاحتفال الذي تقيمه في كُلِّ أسبوع تذكارًا لدخول الجنود الفرنسوية عاصمة البلاد مع أن الأمر خلاف ذلك.

وسياسة فرنسا في تونس هي سياسة المستبد، ومعاملتها للأهالي هي معاملة القوي للضعيف، يُسام الخسف فلا يرثي له أحد، ولا قدرة على المطالبة بحقوقه المهضومة، وإذا كان من القضايا المُسْلِمة أن المرء لا يشكر غيره إلَّا إذا وصل إليه الخير من يديه، فإن أفاضل التونسيين ينكرون إذا سُئِلوا عن هذه الرموز والتماثيل، وإذا لم ينكر أحد منهم فهو إما مضطر لدواعٍ سياسية، أو مِمَّنْ يُلْبِسُونَ الحق بالباطل، ولو تَعَمَّدَ المُغالطة وخِدَاعَ النَّفس.

ولو قلنا إن فرنسا أصلحت وجلبت مودة التونسيين حتى إنهم بالغوا في الشكر لها رأينا من جهةٍ أخرى أنه لم يسبق لدولة من الدول التي احتلت بلدًا من البلاد بُولِغ في احترامها، وإكرامها بهذا المقدار الذي يوقف العاقل السياسي موقف الريب والشكوك.

وأيضًا قضى الناموس الاجتماعي أن الدولة الأجنبية التي تحكم أمَّة أخرى لا يمكنها أن تكتسب محبَّتها بوجه من الوجوه ولو جعلت أرضَ بلادِها تنبت العسجد والنضار إلَّا إذا منحتها الاستقلال التام، وفرنسا لم تعطها شبه استقلال ولا بعض شبه استقلال، فإذن لا معنى لهذه الرموز إلَّا ما ذُكِر.

وعلى هذا تكون فرنسا قد خالفت سُنَّةَ الدُّول التي سارت سير العاقل الحكيم في حُكْم الأمم الأجنبية عنها في الجنس، والعقيدة من وجهين؛ أولًا: اتباعها الخطة التي تنفِّر منها قلوب أهل تونس بتلك المعاملة الخشنة التي فصلتها في سياستها في هذه البلاد في الفصل السابق، ثانيًا: ابتداع بدعة لم تخطر على بال رجال السياسة في الماضي والحاضر ولن تخطر أبدًا فيما بعد، وهي أنها أجبرت الوطنيين بالاعتراف لها بالجميل، وإذا كان لدى القارئ الكريم ريب في هذا فليقس معنا الأمور على أشكالها حتى يظهر الصُّبح لذي عينين، أترى لو كانت ألمانيا فعلت في الألزاس واللورين ما فعلته فرنسا في تونس أكان يصبر أهل هاتين المقاطعتين على هذه الإهانة من إقامة تمثال واحتفال مثل ما يجري في تونس أسبوعيًّا؟ أم يذكرون اليوم الذي فيه وقفت فرنسا أمام ألمانيا موقف المغلوب المقهور وفي كل لحظة يشاهدون أنواع الظلم والقسوة ولا قدرة لهم على إزالتها؟

ولو وضعنا إصلاح فرنسا في تونس في كفة ميزان وإصلاح إنكلترا في مصر في الكفة الأخرى، لكان لإنكلترا مزية الأرجحية، فلماذا لا يوجد بمصر تمثال كالذي في تونس؟ واحتفال كالذي تعمله فرنسا هناك أسبوعيًّا تقف فيه مصر موقف المرحب بإنكلترا؟

ومُجْمَلُ القول إن فرنسا أخطأت خطئاً بيِّنًا في عملها هذا، فما كان أجدرها بعدم حرمان أهل تونس من خيرات بلادهم ومن التمتُّع بكُلِّ الحقوق الوطنية، وهي الدولة التي اشتُهرت في العالم بدولة التمدن والحرية واحترام الأديان، هذا ما عَنَّ لي من الأقوال ذكرته والله ولي التوفيق.