ذكرى مولد الرسول -صلى الله عليه وسلم-
لحضرة صاحب الفضيلة الأستاذ محمود شلتوت
عضو جماعة كبار العلماء وعضو مجمع فؤاد الأول

في شهر ربيع الأول من كل عام يقيم المسلمون حفلات الذكرى لميلاد النبي مُحَمَّد” -صلى الله عليه وسلم-، فينصبون السرادقات، ويرفعون الأعلام، ويلقون الخطب، ويذيعون الأحاديث، ويكتبون الفصول، يشرحون للناس فيما يخطبون ويذيعون ويكتبون سيرة الرسول مُحَمَّد” -صلى الله عليه وسلم- أو ناحية من نواحي سيرته، ويذكرون تشريعه وأحكامه وطريقته في التأديب وإنهاض النفوس وتهذيب الأخلاق.         

يذكرون أطواره التي مر بها بها في حياته قبل البعثة وهو طفل رضيع في بادية بني سعد، وهو غلام حدث يرعى الغنم بمكة، وهو شاب قوي جلد يسافر ويتجر، ويحضر حرب الفجار وحلف الفضول، ثم يذكرون دعوته وكيف بدأت سِرِّيَّة ثم كانت جهريَّة، ويذكرون ما ناله من أذى قومه واضطهادهم له، وتضييقهم عليه حتى أخرجوه من دياره وأمواله إلى المدينة، فكانت الهجرة، وكانت الحروب، إلى أن نزل قوله تعالى بعد ثلاث وعشرين سنة من مبعثه: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا).

على هذا النحو يحتفل المسلمون بذكرى ميلاد الرسول في يوم أو أيام ويقولون إنها ذكرى: (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين).         

ولقد كان المسلمون في عصورهم الأولى لا يعرفون احتفالاً خاصاً يقيمونه في مثل هذه الأيام بقصد إحياء ذكرى الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأنهم كانوا يرون أن عظمته ليست من جنس هذه العظمات التي يألفها الناس في أفذاذهم ورجالهم، والتي يُخشى عليها من الضياع والتلاشي في بطون التاريخ فيحتاج بقاؤها في أذهان الناس إلى ما يُذكرهم بها في كل عام.         

كانوا يؤمنون أن عظمته خالدة، تظل دائما قارَّة في النفوس، ماثلة في القلوب، ممتزجة بالدِّماء، مؤاخية للعقيدة، تظهر في أقوالهم إذا نطقوا، وفي حركاتهم إذا تحرَّكوا، وسكونهم إذا سكنوا.         

تظهر في جميع شئونهم الفردية والاجتماعية، السِّرِّيَّة والعلنية، الدنيوية والأخروية، إلى يوم البعث والجزاء، بل وفي النعيم الباقي الذي لا يفنى ولا يزول؛ فهي عظمة قد رسمت لهم باطن الحياة وظاهرها، وحدودها ودوائرها، لم تقف عند ناحية من نواحي الحياة، بل لم تقف عند حدود هذه الحياة الفانية فشملت جميع نواحي الحياة، وامتدت إلى الحياة الآخرة فكشفت عن حُجُبِ غيبها وصوَّرت ما يكون فيها للمُحسن من نعيم، وما يكون فيها للمُسِيء من شقاء.

لم تكن عظمته بانتصار في معركة، ولا برأي في علم، ولا بنظرية في أرض أو سماء، وإنما كانت عظمته عامَّة شاملة، بهذا آمن المسلمون في عصورهم الأولى يوم كان الإيمان قوياً في النفوس، تشتعل جذوته فتلتهب الجوارح وتُبذل الأنفس، ويُضحَّي بالدِّماء في سبيل ترسُّم خُطى تلك العظمة والجِدِّ في معرفتها وتبيُّنها من مصادرها ونشرها على العالم مُهذّبة نقية، كي تحيا بها النفوس وتطمئن إليها القلوب؛ وبذلك كانت جميع أيامهم، وجميع أوقاتهم ذكرى عملية لهذه العظمة.

ذكرى عملية يتمثلون فيها مبادئه وأحكامه، وإرشاداته الحكيمة، ويسيرون على نهجها فكانت حالتهم مثالاً صادقاً، ومرآة صافية تُرَى منها عظمة الرسول لِمَنْ أراد مِنْ غيرهم معرفة عظمة الرسول.

كانوا يرون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد كَرَّمَ اللهُ قدره ورفع ذكره أرفع قدراً وأعلى شأناً من أن يُكَرَّمَ كما يُكَرَّمُ آحاد الناس بخطبةٍ تُلقى، أو حديثٍ يُذاع، أو فصلٍ يُكتب.         

كانوا يرون أن اللهَ قد كرَّمهُ وليس بعد تكريم الله تكريم: خلّد اسمه في كتابه الخالد؛ فذكره باسمه الصَّريح، وذكره بوصف الرِّسالة، وذكره بوصف العُبُودِيَّة لله الواحد، وذكره بعظمة خلقه، وذكره برحمته للمؤمنين، وبرحمته للناس أجمعين، وذكره بأنه المُزكي للنفوس المعلم للكتاب والحكمة؛ وذكره بكل هذا كما ذكره بأنه شهيدٌ على أمَّتِهِ، وبأنه صاحب المقام المحمود.         

ثم جعل محبَّتَهُ مِنْ محبَّتِهِ، وطاعتهُ من طاعتهِ، وبيعتهُ من بيعتهِ.

لم يقف التّكريم الإلهي ل”مُحَمَّد” -صلى الله عليه وسلم- عند هذا الحَدِّ، بل جعل له ذكراً في الأوَّلين إذ كتبه في التوراة والإنجيل، وجعل له ذكراً في الآخرين إذ قَرَنَ بينه وبين اسمه الكريم في كلمة التَّوحيد التي يكون بها المَرْءُ مسلماً، والتي هي الحَدُّ الفاصل بين الإيمان والكفر، وإذ جعل المناداة باسمه جزاءاً من الأذان الذي يُقرَّرُ في كل يوم خمس مرَّاتٍ بصوتٍ مسموعٍ إيذاناً بالصَّلوات المفروضة وجمعاً للمسلمين على عبادة الله.         

لم يكن بعد هذا كله ما يُلتمسُ أن يكون تكريماً ل”مُحَمَّد”.         

ومتى كانت هذه العظمة تُنْسَى حتى يُذَكَّرُ بها؟

ومتى كان هذا التّكريم يخفى حتى نعمل على إظهاره؟

آمن الأوائل بهذا كله فآمنوا بأن تمجيد رسولهم وتكريمه إنما يكون عن طريق اتِّباعِهِ وإحياءِ سُنَّتَهُ، والتّحلّي بأخلاقه، وإقامة شرعه ودينه.         

آمنوا بهذا وعلموا أن الإيمان الحق يُثمِرُ المحبَّة الصَّادقة، وللمحبَّة الصَّادقة حُقُوقٌ وعليها تَبِعَاتٍ، فمن حقوقها المتابعة لِمَنْ تُحِبُّ، والرِّضا لِمَا يُرضِيه، والغضبُ لِمَا يغضب.         

ومن تبعاتها تحمُّل المشاق والتضحيَّة بالنفس في سبيل رضا المحبوب: (قل إن كان آبائكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحَبَّ إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربَّصُوا حتى يأتيَ اللهُ بأمره).

ظَلَّ المسلمون كذلك حتَّى خَفَّ ميزان الإيمان من قلوبهم وانطفأ عنهم نور تلك العظمة وأقفرت بصائرهم من أسرارها ولم يبق لهم إلا صور مرسومة بحروف في الصُّحُفِ والكُتُبِ يرجعون إليها كلما عاودتهم ذكرى تلك العظمة؛ وكلما تذكّرُوها بشهر ربيع، فوضعوها في مستوى العظمات الأخرى وجاروا الناس في تكريم عظمائهم فكرَّموا بأساليبهم.         

كَرَّمُوهُ بالأناشيد، بالأزجال، بالأنغام، وتفنَّنوا في المُحاكاة حتى صاغوا عظمة “مُحَمَّد” في أسلوب روائي قصصي وقالوا: قصة المولد الشريف.         

وما كان لعظمة “مُحَمَّد” أن تكون قصة وهي الحقيقة الخالدة.         

ولكن هكذا ابْتُدِعَ هذا الأسلوب في تكريم “مُحَمَّد” كأثر من آثار الضعف حينما ابتلى المسلمون بالقول دون العمل، وحينما انقطعت الصلة العملية بينهم وبين شريعته -صلى الله عليه وسلم-.

ابْتُدِعَ هذا الأسلوب من التكريم بعد أن لم يكن، فهل بحث الناس عن سبب ابتداعه؟

وهل تساءلوا عن السِّرِّ في أنه لم يكن في العصور الماضية، عصور القوة والإيمان، ثم كان في عصورهم؟

هل انصرفوا إلى هذا الجانب الذي كان يُرجى أن يعرفوا منه أسباب الضعف الذي أنتاب المسلمين وأن يعملوا على تلافيها وإعادة الإسلام إلى مجده وقوته؟

كلا ولكنهم انصرفوا إلى البحث في أنه بدعة أو ليس بدعة؟

 وإذا كان بدعة فهل هي بدعة حسنة أو بدعة غير حسنة؟

وهكذا اختلفت مذاهبهم وتَعَدَّدَتْ آراؤهم وظلّوا إلى يومنا هذا بين مُحَبِذٍ ومُنْكِرٍ، شأنهم في كل شيء تناولوه بروح الجدل الذي صرفهم عن العمل.         

وما ابْتُلِيَتْ أمَّة في حياتها بشر من كثرة القول وقلّة العمل.         

قد ابْتُلِىَ المسلمون بالجدل في كل شيء، فصرفهم عن العمل بقدر ما جادلوا: جادلوا في العقائد، جادلوا في الأحكام، جادلوا فيما ليس من العقائد والأحكام، جادلوا في الكلمات والألفاظ، جادلوا حتى في القواعد التي وضعوها للجدل!

وهكذا صار الجدل شغلهم الشاغل فتلهَّوا به عن فهم الإسلام، وعظمة الإسلام، وسِرِّ دعوة الإسلام.         

تلهَّوا به عن إدراك مُقَوِّمَاتِ الحياة، فوقعت كل الشعوب الإسلامية في قبضة المستعمرين وتحت راياتهم.         

وما من شعبٍ إسلاميٍ اليوم إلا وتسمع مُرَّ شكواه وصرخة أنينه.

كان جديراً بالمسلمين أن يعملوا جاهدين على دوام التأسِّي برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والتزام رسالته التي لم تترك سبيلاً للسعادة إلا شرعته ودعت إليه، ولا سبيلاً للشقاء إلا منعته ونَفّرَتْ منه.         

أصلحت العقيدة، وكرَّمت بذلك عقل الإنسان وأزالت عنه وصمة الشِّرك والعُبودية لغير الله، ثم أمدَّتها بمددٍ دائم روحيٍ لا ينقطع.

أمدَّتها بالصَّلوات التي تصل بين العبد وربه، وتُذكِّرهُ بخالقه ومُنشئه، وتنهاهُ عن الفحشاء والمنكر.         

أمدَّتها بالصوم تمريناً على الصبر، وتعويداً على الطاعة، ومراقبة الله في السِّرِّ والعلن.         

أمدَّتها بالزَّكاة تمريناً على العطف والبِرِّ والرَّحمة والرِّفق بالمُحتاجين.         

وجعل منها نظاماً يحفظ الغنى من الطغيان، والفقير من الحرمان ثم نظرت إلى أن المُجتمع الصَّالح إنما يقوم على العلم والمال والأسرة ونظام الدولة والصِّحَّة العامَّة، والقوة، والعدل، وفي هذه الدوائر رسمت برنامج إصلاحها الشَّامل، فحثَّت على العلم ووضعت نظاماً للتعامل من شأنه أن يُبطل النزاع ويُزيل الفساد، ويقضي على أسباب الفِتَنِ، ووضعت نظاماً للأسرة يقيها الانحلال ويربطها بميثاق المحبَّة والتعاون.         

وضعت أصول الحُكْمِ وبيَّنت مصادر التَّشريع، وحثَّت على اتخاذ الحيطة وإعداد القوَّة، وأمرت بالرَّحمة والعدل في كل شيء إلى آخر ما جاءت به هذه الرِّسالة التي سايرت مقتضيات الطبيعة البشرية، واستطاعت أن ترد العالم في فترة وجيزة عن طغيانه وأن تُخرجه من الظلمات إلى النور، واستطاعت أن تُوجد من رُعاة الشاة والإبل عُبَّادِ الأصنام والكواكب، وعبادة الأهواء والشَّهوات، أمَّة قويَّة تؤمن بالله وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، لها الكلمة المسموعة والسلطان النافذ.

أما بعد:
فهذا هو مجال ذكرى “مُحَمَّد” -صلى الله عليه وسلم-.         

وعلى المسلمين إذا أرادوا تصحيح نسبتهم إلى “مُحَمَّد” -صلى الله عليه وسلم- وإلى رسالته أن يخلعوا أنفسهم مما هم فيه من اللهو واللعب وأن يتَّخذوا العُدَّةَ لتهيئة النفوس بالإيمان الحق والخُلُق الفاضل، ثم يُخَلِّصُوا أحكامها مِمَّا غشاها، ويُحَصِّنُوا بها حياتهم، وعندئذ تكون ذكرى الرسول فيما بينهم كما كانت ذكراه فيما بين أسلافهم إيماناً وخُلُقاً، وعلماً وحكمةً، وعِزَّةً وقوَّةً: (وللهِ العِزَّةُ ولرسوله وللمؤمنين).
محمود شلتوت
(عضو جماعة كبار العلماء وعضو مجمع فؤاد الأول)
1952م