منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

soon after IZHAR UL-HAQ (Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.


 

 لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49335
العمر : 72

لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي Empty
مُساهمةموضوع: لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي   لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي Emptyالثلاثاء 31 ديسمبر 2019, 10:25 pm

لحن الترديد (فوجه)
المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي

كنت أوَدُّ أن أنهي هنا بما في القسم الأخير من نصيحة علمية وألا أضمن فيه إلا ما في جزئه الأول هذا من مادة بنّاءَة مُفعمة بالأمل.

وأكون بذلك قد قلت ما كان عليّ أن أقوله للمهندسين المعماريين الآخرين وللجمهور عامة.

إلا أن تجربة القرنة أصابها الفشل، ولم تكتمل القرية قط، وهي حتى يومنا هذا لم تصبح بعد مجتمع قروي مزدهر.

ولن يكون من الإنصاف للقارئ أن نجعله يفترض أن المبادئ التي سبق شرحها هي مما ينجح أوتوماتيكياً عند التطبيق.

وفي نفس الوقت فإني لن أكون مُنصفاً لنفسي ولا لبلدي لو تركت هذه المبادئ تظل مُدانة بسبب فشل هذه المحاولة الوحيدة لتطبيقها.

فليست القرنة وحدها التي توقّفت، بل توقّف كل أمل حقيقي للوصول بالفلاح المصري إلى المستوى اللائق من المعيشة.

وكنتيجة لأن القرنة لم تكتمل قط، تمَّت إدانة كل نظرية البناء بطوب اللبن هي والرأي بأن الإسكان الريفي يقتضي استخدام المهارات التراثية، وأدين كل هذا على أنه نزوات غير عملية.

ولم يقتصر الأمر على عدم بذل أي محاولة لاستكمال القرنة بل ولم تبذل أي محاولة لإيجاد وسائل أخرى عملية للوصول إلى بناء بيوت ريفية.

وكان المهندسون المعماريون الحكوميون أثناء بناء القرنة وبعد توقف العمل فيها، يصورونها على أنها بأكثر التعبيرات تأدُّباً، فشل مثير للاهتمام، رحلة عاطفية على دربٍ مُنحرفٍ لا يمكن أن يؤدِّي إلى النجاح.

وكان يتم الهمس بهذه الإفتراءات في دهاليز الوزارات بل إنها ظهرت في صحيفة أجنبية* في وقت مُتأخِّر حتى عام 1961.

وبالتالي فلابُدَّ من أن أرُدَّ على هذه التُّهم قبل المُضي لما هو بعد ذلك.

وليس أسهل من أن أقول في إبهام أن ما منعني من إكمال القرنة هو ما عند الفلاحين من غموض وما عند البيروقراطيين من عداء، إلا أنني سأكون أكثر إقناعاً لو تركت لتاريخ المشروع أن يتحدَّث عن نفسه.

وما سيأتي بعد ليس بأي معنى مُفكرة تُسجِّل تقدُّم العمل في القرنة.

إنه محاولة لأن يفهم القارئ سبب توقُّف العمل، وهكذا فقد اخترت كأمثلة بعضاً من أبرز ما لقيت من عقبات ومكائد.

ومرَّةً أخرى فلستُ أوَدُّ أن يُعْزَي إلِيَّ أنِّي كنتُ خائر العزم مُستسلماً لهذه المِحَنِ، وإني لاؤكد أن هذه الأمثلة ليست إلا الأشجار الكبيرة التي في الغابة، والتي تُطل بارزة من بين الحشائش شائكة متشابكة من المُعوِّقات الدَّنيئة، والمُؤمرات، والعجز، والتعطيل، مما أسهم في الحط من معنوياتي في النهاية بأكثر مما أسهمت به العقبات الكبيرة.

والحقيقة أن هذه الوخزات الصغيرة اليومية بلغ من كثرتها واستفزازيتها أني وَدَدَّتُ لو عرضتها على أنظار رؤسائي، على أنه كان من الواضح أنه ليس في استطاعتي أن أرسل تقريراً رسمياً كلما حدث مثلاً أن تأخر وصول أجور العُمَّال في الوقت المُحدَّد، كما كان يحدث دائماً، حتى أنهم أضربوا عن العمل، أو عندما حدث أن أرسلت لي المخازن عشرين كيلو جراماً من مسامير لا رؤوس لها، لأنني لم أوصِّف رُؤوساً في طلبيَّتي.

على أنني اقترحت بالفعل على (شفيق غربال) وكيل الوزارة، أن أجمع ملفاً عن الاستفزازات الصغيرة وأرسل له عنها دورياً لقراءتها؛ ولم يرحب هو بالإقتراح.

وكنتيجة لهذه المعوقات جرى العمل في القرنة في تقطيع شديد.

وكلما تلقَّينا مالاً ومواد للبناء، أخذنا نبني في هياج لتطلع البيوت كزهور الصحراء بعد المطر.

وكلما شوهدنا ونحن نبني أو بدا الأمر وكأننا نبني، لا تلبث الإمدادات أن تنضب ليتباطأ العمل حتى يتوقّف.

وهكذا عملنا في أول ثلاثة مواسم مدة أحد عشر شهراً ونصف الشهر من بين ثلاثين شهراً.

وبعد الموسم الرابع توقّف تقريباً أي إنشاء، وكان العمل الوحيد الذي تم إنجازه هو جرد المخازن، ولكن هيا نبدأ من البداية.
* * *



لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49335
العمر : 72

لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي Empty
مُساهمةموضوع: رد: لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي   لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي Emptyالثلاثاء 31 ديسمبر 2019, 10:32 pm

الموسم الأول: 1945: 1946

بدأ العمل في التصميمات في أغسطس 1945 عندما استلمنا الأرض من كامل بولس حنا بك.

وكتبت في نفس الوقت خطاباً لصديقي القديم الحاج بغدادي أحمد علي، أطلب منه أن يجمع فريقنا من البنَّائين.

وهم أولئك الرجال الذين كنت أذهب معهم من قرية إلى أخرى، كفرقة من مُنشدى التروبادور* المتجولين، لنبني العِزَبَ والاستراحات لكبار المُلّاك الزراعيين.
----------------------------------------------------
* صحيفة الديار تلجراف، 20 أكتوبر 1946.
* نوع من الشعراء المُتجوِّلين في القرنين 12، 13 ميلادي ينظمون شعراً غنائياً بلغة جنوب فرنسا، مُعظمه في الغزل، وهناك ما يَدُلُّ على أنهم امتداد لشعراء الأندلس العرب المُتجوِّلين.
(المترجم).
----------------------------------------------------
وطلبت من بغدادي أن يجمع أيضاً أكبر عدد يستطيع من البنَّائين الجُدُدْ.

لقد انتهى العهد بحياتنا حياة مثل الغجر، ولن يكون علينا بعد أن نفك حزم أدواتنا في إحدى العزب القصيَّة أو القرى المريبة، بينما البنَّاءون المحليون يرمقوننا في عداء.

إن علينا أن نبني قرية كاملة، وعميلنا هو الحكومة؛ وهكذا أمكنني أن أعِدَ الرجال بعمل وافر وأجر مضمون، وقد أصبح لديَّ أخيراً الفرصة لتعليم أسرار المهنة لصبيان جُدُد، وهو أمرٌ لم أتمكّن منه فيما سبق لأن البنَّائين المحليَّين في القرى التي كنا نبني فيها كانوا دائماً يحسُّون، وهم على حق، بالغيرة من تطفّلنا الذي يسلبُهم رزقهم، وكانوا بالتالي يرفضون أن يتعلّموا، والحقيقة أن البنَّائين الأسوانيين كانوا هم أيضاً كتومين ولا يريدون إشراك الغير في مهاراتهم.

وبحلول أكتوبر من نفس السَّنَة، عندما بدأ العمل في الموقع، كنت قد أكملت خطة القرية، وتصميمات معظم المباني العامة، وتصميمات صَفٍ واحدٍ تجريبي من البيوت المُلحقة بالخان.

وقد تضمَّن هذا الصَّف بيوتاً من مُختلف الأشكال والأحجام بحيث يمكن لأهل القرنة أن يأخذوا منها فكرة عن إمكانات المساكن الجديدة التي ستُقدَّم لهم وبهذا يمكنهم التشاور معي بتعاون أكثر عندما أصل إلى تصميم البيوت من أجل عائلات بعينها.

وقد قصدتُ بهذه البيوت التجريبية أن تلحق بالخان لتكون مساكن للموظفين الذين قد ترسلهم وزارة الصناعة لإدارته.

وفي الفترة ما بين حصولنا على الموقع وبدايتنا للبناء كنت أعمل معظم الوقت في القاهرة.

وذات يوم أثناء وجودي في مكاتب مصلحة الآثار، ذكر أحدهم أن المساعدين الذين عُيِّنُوا لمعاونتي موجودين هنا في المبنى.

فهل أحِبُّ أن أقابلهم؟          

وسُرِرْتُ لسماع ذلك وطلبتُ أن أُقَدَّمَ لهم في الحال.

وانطلقنا إلى حُجرة كان فيها ستة شُبَّان يقفون في صف.

وحيَّا أحدُنا الآخر، وأخذتُ في التعارف على كل واحد منهم شخصياً.

واقتربت من أولهم: ((ما اسمك؟))

((ميشيل)).

((سعيد بلقائك، أأنت مهندس معماري؟))

((لا، عندي دبلوم في النجارة)).

((آه، وأنت؟))

((أمين عيسى، مُتخصِّص في الديكور)).

((آه، وماذا عنك؟))

((أحمد عبد الله)).

((والآن، لابُدَّ أنك مهندس معماري)).

((لا، أنا مُتخصِّص في طلاء الجُدران)).

((حقاً، وأنت؟))

((محمد أبو النصر)).   

((سعيد جداً بلقائك، أزعم أنك مثّال أو شيء كهذا؟))

((لا، أنا مُتخصِّص في النسيج)).

((شكراً، وأنت؟))

((عازر)).

((أنسَّاج أيضاً؟))

((لا، لم أتخصَّص في شيء)).

((وإذن، فما هي مؤهلاتك؟))

((حسن، لديَّ شهادة ابتدائية، وأستطيع القراءة والكتابة)).

وبعد أن تمالكتُ جأشي، فكَّرْتُ أنه ليس من المُهم حقاً ألا يكون لديَّ مُشرفون لمُساعدتي.

فالأمر المُهم هو البناء وهذا سيقوم به البنَّاءون الأسوانيون.

وهم يعملون دونما إشراف ويستطيعون حقاً أن يُعلّمُوا شيئاً أو أكثر للمهندسين المعماريين المؤهلين.

وعَيَّنت المصلحة بعد ذلك مدير أعمال ليعاونني.

وكان مهندساً معمارياً متخرِّجاً في مدرسة الفنون الجميلة في 1933.

وأسعدني جداً أن يكون معي مهندس معماري آخر يُعينُني.

إنَّ يداً واحدة لا تُصفق بنفسها كما يقول المثل، وسأنطلق في العمل بثقة أكبر كثيراً عندما يتوافر لي شيء من عون مهني.

على أني عندما التقيت بمساعدي، فوجئت بعض الشيء عندما طمأنني في التو، بأشد النَّبرات ثقة، عن شئون راحتنا الشخصية في القرنة.

فهو كما يقول طاهٍ ممتاز، ويمكنني الوثوق في قدراته على الحصول على كل التَّموين الذي قد نحتاجه في الصعيد.

وواصل الحديث تفصيلياً عن كميَّات الأرز والسَّمن التي يتوقع أننا سنستهلكها وطرق الحصول على البيض، وكيفية ضمان صلاحية الدجاج لأن يؤكل.

وينبغي القول بأن مسألة ما سآكله لم تخطر لي ببال من قبل، ونظراً لأننا كنا فحسب عبر النهر من الأقصر، في متناول أفضل محال البقالة فإن هواجسه هذه بدت بعض الشيء مما لا داعي له.

على أننا كنا مازلنا في القاهرة، وكنت أتحرَّق لبدء البناء في الموقع.

وكان حماسي للمشروع وضيق الجدول الزمني يدفعاني للإحساس بأن كل دقيقة كانت ثمينة، وأن كل ثانية أفقدها تعني أن هناك طوبة لم يتم رصَّها، وهكذا أجلست ذلك المهندس المعماري الشاب التعس، وأغرقته تواً في غابة من الأرقام والجداول، وتَعَجَّلتَهُ في أن يُساعدني على تجميع بيان بكل المعدات والمواد التي سنحتاجها.

وكانت الإدارة قد أعطتني دفتراً جديداً من استمارات السِّكك الحديديَّة؛ وهكذا وأنا في تعجُّلي لبدء البناء، أرسلتُ مساعدي بتعليمات بأن يذهب أولاً إلى الفيزيائية بوزارة الأشغال العمومية للحصول على أدوات المزواة (ثيودوليت)، ومسواة كوك وأشرطة للقياس، الخ، ثم يذهب بعدها إلى الموقع ليُعِدَّ أساسات المسجد وكان في اعتقادي أن من الأصلح أن أبدأ بهذا البناء بصفته المركز الرُّوحي للقرية، وهكذا فهو الأليق لاحتفال إرساء حجر الأساس، وأيضاً لأن توجيه المسجد هو أمرٌ مُحدَّد مُسبقاً، وحرصت في هذه الحالة على التأكد من أنه 10  121ْ من الشمال.

وكان مُساعدي قد ذهب معي من قبل لرؤية الموقع وكان عارفاً تماماً بخِطَطِي؛ وهكذا انطلق مملوءاً بالثقة.

أمَّا أنا فكنت أنوي في نفس الوقت أن أمكث في القاهرة لأرتب تسلُّم أول الضروريات من المواد والمُعدَّات.

ولما كانت كل مبانينا سيكون لها أساسات حجرية، فقد كنا في حاجة لشاحنات لحمل الحجارة؛ كما أننا، كنا في حاجة إلى القش لصنع الطوب.

وجهَّزتُ نفسي باستمارة السكة الحديدية وأخذت القطار للأقصر.

ووصل القطار في السابعة صباحاً من اليوم التالي، ونزلت بكل حقائبي، وصناديقي، ولفائف من المشروعات، ومعدات، وجهاز حاكي، وأسطواناته، وأشياء وحوائج، ومتناثرات شتّى -ذلك أنِّي سأقيم في القرنة زمناً طويلاً- ووجدتُ جمهوراً كبيراً قد تجمَّع للقائي.

ويتكوَّن هذا الجمهور -الذي أصبح ملمحاً لكل مرَّات وصُولي ورحيلي من محطة الأقصر- من كل أنواع الناس الذين لهم علاقة ما بالعمل، أو مِمَّنْ يأملون تشغيلهم فيه، وكما السُّلطان انطلقت بجمهوري هذا إلى القرنة.

وهناك في القرية القديمة كنا قد مُنِحْنَا استراحة، أحببتُ أن استريح فيها.

وتبيَّن أنها بناء تيوتوني* مربع يجثم على الأنفاس، ومن الواضح أنه منقول عن شارع التوفيقية بالقاهرة، وأنه كان ينتمي ذات يوم إلى المدرسة الأثرية الألمانية.

ولم أحبُّه قط، وذلك بسبب عتبات نوافذة التي تصل إلى مستوى الذقن وبلاط أرضيته المُبهرج على أنه لَمَّا كان عليَّ أن أقيم فيه فقد اخترتُ غرفة هي نسبياً غير مُنَفِّرَة وكانت على السَّطح وتطل على مشهد جيد.

وما إن ارتحتُ حتى اعتليت حماراً وركبته إلى الموقع.

وأثناء اقترابي منه، أمكنني أن أرى ما يثير أقصى الحماس من علامات للعمل النَّشط حيث سيكون المسجد.

ووصلتُ إلى مكان وقوف مساعدي، ورأيتُ أن الأساسات قد خُطِّطَتْ حقاً كلها تخطيطاً جميلاً بالجير.

وسُرِرْتُ بوجهٍ خاص لأن مساعدي هذا كان طالباً في درسي على المساحة بكلية الفنون الجميلة، وهكذا رَبَتُّ على ظهره وسألته في زهو تربوي: ((كيف أرسيته بارعاً هكذا؟))

هو: ((إنني فحسب وقعت الخطة على الأرض)).

((نعم، ولكن كيف صنعت في توجيهه؟))

((التوجيه؟ حسن لقد رأيت أن من الأفضل أن يكون مُوازياً للطريق)).

((ولكن التوجيه - الزاوية - مكة - ألم تستخدم مزواتك؟))

((المزواة؟))

((الأدوات التي من وزارة الأشغال العمومية!))

((آه، نعم، تلك حسن، إنك قلت أنه يجب صنع شيء في التو، أنت تفهم، إحداث انطباع في الإدارة، عمل استعراض، لا تشغل بالك، إنه يبدو جميلاً)).

وظل يتحدَّث ويتحدَّث، بصوته الزَّاعق المُنَفِّر، وهو يتدفق بسيل من الاقتراحات تتراوح بين غير المعقول وغير الأخلاقي، حتى وجدتني أفكر لأول مرة في حياتي في أن الأذن ليست تماماً بالعضو الكامل.

فأنت  لا تستطيع إغلاقها مثلما تُغلق عينك.

وعاهدتُ نفسي أنني ينبغي أن اتخلّص من هذا المساعد في أول فرصة، ثم التفتُّ إلى العمل الحقيقي الذي ينتظرني.

والمزية الأساسية في مشروع القرنة هي انخفاض تكلفته.

وكان عليَّ عند كل مرحلة أن أضغط النفقات الأخرى لتنخفض إلى مستوى يُقارن بمستوى طوب اللبن.

وكان هذا يعني توقيتاً حريصاً للعمليات بحيث لا يظل أي عُمَّال أو بنَّائين بلا عمل في الموقع في انتظار لمواد البناء؛ فالقش لابُدَّ من أن يكون جاهزاً لضاربي الطوب، والطوب والحجارة جاهزة للبنَّائين، بالكميَّات الكافية في الوقت المناسب؛ وإلا فسوف ندفع أكثر مما ينبغي في أجور غير مُنتجة.

وكان علينا أن نبني ما يقرُب من تسعمائة منزل -بخلاف المباني العامة- خلال ثلاثة أعوام.

ولا يمكن العمل في الصعيد إلا لعشرة شهور، لأن الحرارة أثناء يوليو وأغسطس ترتفع إلى 45ْم في الظل و 80ْم في الشمس (113ْ فو 160ْ ف).

إذن فينبغي أن نبني في شهور العمل الثلاثين، تسعمائة منزل، أو ثلاثين منزلاً في الشهر، أو منزلاً في كل يوم.

وحسبت تقديراتي للمواد والعِمَالة اللازمة لإنشاء منزل صغير، ومنزل كبير بالتتالي.

ثم حسبتُ متوسط التقديرين، وهكذا أمكنني التنبؤ بكمية المواد التي سنحتاجها كل يوم، والرجال والمُعدَّات اللازمة لاستمرار هذا الإمداد.

وطلبنا شاحنتين، ونحن نأمل أن نحصل على أربع شاحنات أخرى في ميزانية العام القادم؛ وبهذه الطريقة يُمكننا توزيع نفقات المُعدَّات الثقيلة على أكثر من موسم واحد.

كنت مُصمِّماً على إنجاز أكبر قدر مُمكن من العمل في إنتاج مواد البناء.

وكنت أعرف أن البنَّائين الأسوانيين ما إن شرعوا في العمل حتى يجعلوا البيوت تطلع كعُش الغُراب، مادام لديهم الطوب.

ولَمَّا كانت مواد البناء الأساسية -الطوب والحَجَر- سيتم صُنعها وتحجيرها بأنفسنا، فإن شاغلي الأول كان تشغيل العِمَالة الكافية لجعل الإنتاج يتحرَّك.

وكان ينبغي أن يكون هناك صنفان رئيسيَّان من العُمَّال: عُمَّال مهرة وغير مهرة.

وعهدتُ إلى الحاج بغدادي علي بمسئولية العُمَّال المَهَرَة وهم في أغلبهم بنَّاءون، وحجَّارون من أسوان.

وبغدادي كما شرح لي، قد آتى إلى القرنة ليُساعدني فحسب؛ فقد قال إنه قد كَبُرَ سِنًّا على العمل، ولكنه يَوَدَّ أن يفعل ما يستطيعه لمُساعدتي على مُواصلة المشروع الجديد، من أجل العِشْرَةِ القديمة.

وهو فوق ذلك، قد أحضر ابنه، وهو أيضاً بنّاء، قد درس في مدرسة الصنائع حيث حصل على دبلوم في النجارة.

ووضعتُ أحمد عبد الرسول على رأس العُمَّال غير المهرة الذين جُمِعُوا كلهم محلياً.

وكان قد قُدَّم لي على أنَّهُ من أعيان القرنة، رجل من أسرة ذات نفوذ (ابن محمد عبد الرسول الشيخ المُبَرَّز) وكان مُعتاداً على تشغيل العمال لحساب مصلحة الآثار.
-------------------------------------------------------
* نسبة للتيوتون، جنس جرماني قديم.
(المترجم).
-------------------------------------------------------
والطوب كما يمكن تذكره، يُصنع من تربة تطهيرالترع حتى يتم لنا حفر البحيرة الصناعية، ومن الرمل من الصحراء، ومن القش الذي كنت أحاول شراءه.

ولتوفير المياه لخلط الطين كنت قد اشتريت أربع مضخات يدوية من القاهرة؛ وكنا نحتاج سبَّاكاً لتركيب المضخَّات وصيانتها، وأحضر عبد الرسول لي ابن عمه الشيخ إبراهيم حسن، رجل ضخم خارق القوى ومزاجه جداً لطيف، وسرعان ما قام بتشغيل المضخّات.

وقررتُ تشغيل خمسة وعشرين فريقاً كل من أربعة رجال لضرب الطوب، وجهّزهم لي عبد الرسول بمُنتهى النشاط، بل وعرض أن يوفّر لي خمسين أو مائة فريق لو احتجت لذلك.

وهذه الفرق الخمسة والعشرون تُنتجُ ما يقرب من 75000 قالب طوب في اليوم، وبذا سنتمكَّن من جمع رصيد طيب من الطوب قبل الوقت الذي يتهيّأ فيه بنَّاءُونَا للبدء في البناء.

وضاربوا الطوب هؤلاء لم يأتوا في الحقيقة من القرنة وإنما من قرى مجاورة، ذلك أنه يبدو عموماً أن الحِرَفَ تتجمَّعُ في أماكن مُعيّنة، بحيث يمكنك مثلاً أن تجد مائة ضارب طوب في قرية واحدة ولا تجد واحداً في القرية التالية.

وكان هذا مما يُؤسفُ له نوعاً ما، ذلك أن سياستنا كانت أن نُشَغِّلَ كل العِمَالة في القرنة، إلا العِمَالة الماهرة بالذّات.

ولسُوءِ الحظ لم نجد في القرنة إلا القليل جداً! فقط أربعة حجَّارين واثنان من البنَّائين بين سبعة آلاف ساكن.

وكان ينبغي تحجير ما يلزم من حجر لأساسات القرية من أحد المحاجر، إلا أنه لم يكن مُتاحاً غير مكانين قريبين، وكان أحدهما شمال وادي المُلوك، فيما يلي المحاجر القديمة للملكة حتشبسوت، والآخر على مَبعدة في الاتجاه المضاد، إلى الجنوب من وادي المَلِكَات.

والمَحجر الأول فيه حَجَر جيري صلب، مُلائم للأساسات، بينما الثاني فيه حجر جيري هش لا يصلح إلا لصنع الجير.

ولم يكن من السَّهل جداً تحجير الحجارة من أي منهما، ذلك أن طبقات الحجر الجيري كانت تتبادل مع طبقات سميكة من كُتل متجمِّعة تشبه الخراسانة الإسمنتية وتستغرق إزالتها زمناً طويلاً.

وكان مما زاد مصاعبنا أسلوب العمل السَّيئ للحجَّارين السابقين من القرنة، الذين نسفوا كل الحجارة المُتاحة بسهولة أسفل سفح التل، تاركين الجزء العلوي معلقاً على نحو خطر للغاية.

والحجَّار الجيد يقطع في التل سلسلة من الدرجات.

وبالطبع لم تكن المصلحة لتطلق لنا العنان في منطقة آثار هامة هكذا حتى ننسف وننقل الحجارة حيثما نشاء؛ وهكذا تكوَّنت لجنة، تألّفت من كبير مفتشي الآثار في الأقصر، وأمين جبَّانة طيبة، ورئيس حُرَّاس الجبَّانة، ومساعدي، وإيَّاي.

وحدَّدنا المنطقة المُخصَّصة لنا (وَوُضِعَتْ فيما بعد لوحة صغيرة على مَحجرنا، كما كان يفعل القدماء، تحمل تاريخ المحجر والغرض منه، ولكن هذا ساء كبير المُفتشين، إذ رأى أنه تصرُّف لا يليق وأزال اللوحة رغم أنها كانت في نطاق سلطة عملي).

ولتشغيل هذا المحجر انتويت إحضار حجَّارين من أسوان، حيث ثمَّة تُراث  لم ينقطع من التحجير يرجع إلى الأسرة الثامنة عشرة، عندما كانت المِسلّات الجرانيتية تُشَقُّ من الحجارة.

على أنه لم يكن ثمَّة داع لإحضار الأسوانيين قبل أن نحصل على المُفرقعات، التي ثبت أنه من الضروري لها أن نحصل على تصريح من وزارة الحربية.

كنت الآن قد ضمنت الحصول على موادي الخام (فيما عدا القش) هي والعمالة؛ وهكذا لم يبق إلا أن أجمع الاثنين معاً.

ولما لم يبد حتى الآن أي أثر للشاحنات، فقد بدأت أستعرض وسائل النقل المحلية.

وكانت من نوعين -الجمال والحمير- وكلاهما مُكَلِّف وغير كُفء، على أن الأمر سيكون أكثر تكلفة وأقل كفاءة لو أننا تركنا الحجارة تتكوَّم في المحاجر والبنَّاءون ينتظرونها في الموقع؛ ولم يكن في استطاعتنا تحمل تكلفة التعطيلات، وهكذا طلبت من عبد الرسول أن ينظر في اكتراء بعض الحيوانات.

وأول بناءٍ لنا كان يجب أن يكون مكتباً للرسم.

وحتى ذلك الوقت كان ما لدينا هو خيمة الموقع، الذي كان فيما عدا ذلك عارياً تماماً، وكنا في الخيمة لا نستطيع أن نبسط قامتنا ونحن نعمل ولا أن نغلق على معداتنا أثناء الليل ورأيت أنه يمكننا بناء البيت الذي في الركن من الصف التجريبي بجوار الخان.

ورغم أنه لم يكن لدينا حجارة للأساس، فإنه أمكننا أن نقيم بناءً مؤقتاً، أقيم على طوب محروق، مما يعطينا بعض مكان نرسي فيه أنفسنا من فوق الموقع.

ويمكن حتى فيما بعد أن نهدمه ونعيد بناءه أمتن.

وحتى يتم بناء ذلك طلبت من بغدادي أن يُرسل لإحضار أربعة بنَّائين فوراً وأن يطلب من اثني عشر بنَّاء آخرين الاستعداد للحضور.

وطلبت منه أيضاً ستة عشر حجَّاراً، ثم حوَّلت انتباهي إلى الأجزاء الأخرى من جهاز العمل التي هي أكثر خللاً.

كان بنَّاءوا الطوب قد أغاروا غارات كبيرة على القش الذي اشتريته، أما القش الذي يُفترض أن تطلبه الإدارة لي فلم يكن من المُتوقع بعد وصوله، على أنه لم يكن هناك أي أثر لاحتياجاتي الأخرى، الشاحنات والسكك الحديدية، كما لم يصلني أي رَدٍ على خطاباتي للإدارة التي استفسر فيها عن سير الأمور ولم يكن في هذا الصَّمت ما يُريح، وهكذا انتظرت حتى حضر البنَّاءون الأربعة وبدأوا ببناء أول بيت، ثم أخذت القطار إلى القاهرة لأرى ماذا يحدث.

كما كان في وسعي أيضاً أن أنتهز الفرصة لتقديم شكوى بشأن مساعدي الذي لم يكن يمكنني الاعتماد عليه.

وذهبت إلى عثمان رستم، واكتشفت أنه يتأهَّب لمغادرة القاهرة.

فقد عُيِّنَ مديراً لمدينة يافا؛ وكان هو الشخص الوحيد في الإدارة الذي يفهم خططي ويُشجعها، وها هو يتم إرساله بعيداً.

وعلى أي حال، فقد أخبرته كيف أن مساعدي قد خطط المسجد موجِّهاً إياه بعناية إلى فندق ونتربالاس في الأقصر بدلاً من أن يوجهه إلى مكَّة، وكيف أن عليّ أن أعيد فحص كل شيء أعهد له بالقيام به، وكيف أنه مشغول بأن يُحدث انطباعاً في رؤسائنا أكثر من أن يقوم بعمله جيداً؛ وطلبت بديلاً له.

ثم استفسرتُ عن قشِّي، لأجد أنه لم يحدث إطلاقاً أي إعلان بطلبه، وأنه ليس من أمل في الحصول عليه لمدة أربعين يوماً آخر على الأقل.

أما بشأن مساعدي فقد قال عثمان رستم أنه سيفعل كل ما بوسعه لمساعدتي، وأخذني إلى مدير عام الآثار، الأب درايتون، الذي وافق على أن أحصل على مساعد أفضل.

ولكن مَنْ؟          

ما من مهندس معماري في المصلحة في القاهرة يُريد أن يغادرها؛ ومعظمهم في الحقيقة يعتبرون بصراحة أن الأقصر بمثابة المنفى ولم أكن أريد مساعداً يعتبر نفسه سجيناً لديَّ.

وتذكَّرتُ أخيراً واحداً من طلبتي، صلاح سعيد الذي كان يبدو مُهتماً بنوع المباني التي أبنيها.

واتصلتُ به وسألته إن كان يُحِبُّ أن يأتي إلى القرنة.

وقال أنه سيفعل ذلك، وإن كان والداه قد عارضا مُعارضة شديدة جداً، وهكذا تَمَّ إعفاء مساعدي من مركزه وحَلَّ صلاح سعيد مكانه.

ولا حاجة للقول بأن مساعدي السابق بدأ في التو شَنْ حملة ضدي، ووجَّه حملته هذه أول الأمر إلى مُساعدي الجديد؛ وأخذ مختلف الناس يهمسون له مُحذّرين إيَّاه من المكائد الميكيافيلية التي تقلب حياة الموظف في مصلحة الآثار ومن المكر الشيطاني لأهل القرنة أنفسهم.

وبالطبع فقد ثار قلقه، ولكنه لم يذكر شيئاً.

وبعد أن فعلتُ ما استطيع لتعجيل استلام شاحناتي وقشِّي، حصّلتُ من قسم الفيزياء الأدوات التي نسيها مساعدي وعُدْتُ إلى القرنة مع صلاح سعيد.

ووجدنا أن العمل قد تقدَّم تقدماً كبيراً في أول بيت وأن هناك كميات جيدة من الطوب والحجر في انتظارنا؛ وهكذا أرسلت في طلب البنَّائين ألاثني عشر الآخرين الذين كانوا متأهبين في أسوان وذلك حتى أدفع بالعمل في باقي صف البيوت.

وحضر البنَّاءون وسُرعان ما استهلكنا كُلَّ قشِّنا.

ولَمَّا كنتُ لا أستطيع إبقاء ضاربي الطوب والبنَّائين وهم في انتظار ما سيفعله الموظفون، فقد قررت أن أشتري القشَّ من حسابٍ يُشرف عليه تفتيش الأقصر لشراء البنود الصغيرة.

وكان من غير المسموح أن نسحب من هذا الحساب أي بند تزيد قيمته عن خمسة جنيهات، وهكذا اضطررت لشراء قشِّي في حفنات أو ما يقرب؛ أي بما يساوي خمسة جنيهات كل يومين أو ثلاثة.

أما مهمة تعيين العُمَّال -التي قام بها عبد الرسول بما يُثيرُ الإعجاب حتى ذلك الوقت- فكانت مُهمَّة أثارت حسد الكثيرين، ووصلني ذات يوم خطاب من أمين الجبَّانة، يخبرني أن بعض العُمَّال عندي معروف عنهم أنهم لصوص مقابر، وهكذا فإنه ينبغي فصلهم.

واستمر الخطاب ليذكر أن الأمين له حق الإشراف على شئون المصلحة في هذه المنطقة، ولذا فإنه صاحب الحق في تعيين العُمَّال، وهو حق يطلب مباشرته فوراً.

وفهمت أن زعمه هذا كان بناءً على تحريض من خفرائه، الذين أرادوا أن يكون لهم يد في تشغيل العُمَّال، وأنه هو نفسه لم يكن حقاً ينبغي هذا، وهكذا فقد رددتُ عليه، مُبيِّناً أن إحدى الفوائد المتوقعة من مشروعنا هي أنه سيُبعد الناس عن سرقة المقابر، بحيث أننا ينبغي أن نرحب بأكبر عدد ممكن من لصوص المقابر.

وعرضتُ عليه أيضاً أن أجعله المسئول الأول عن جلب العُمَّال لو أنه وعدني كتابة أن يوفر لي العِمَالة التي أحتاجها بالقدر الكافي في الوقت المناسب، بحيث لا يتعطّل البنَّاءون.

وفي الحال تخلّى عن مطلبه.

وكان ثمَّة المزيد من المتاعب بشأن استخراج الرَّمل، وهو ليس بالذات من المعادن النادرة في مصر، ولكن عندما ذهب عُمَّالي لحفر بعض الرِّمال، خرج إليهم سُكَّان أقرب نجع وأوقفوهم قائلين أن العُمَّال أغراب وليس لهم الحق في حفر الرَّمال هناك.

وكان ذلك ثانية بسبب اعتقاد القرويين أنه كان يجب أن يُعطى العمل لهم أنفسهم.
* * *



لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49335
العمر : 72

لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي Empty
مُساهمةموضوع: رد: لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي   لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي Emptyالثلاثاء 31 ديسمبر 2019, 10:34 pm

المسجد في 1948
القرنى الماكر

ذات يوم أتى واحِدٌ من أهل القريه كان رجُلاً ضخماً يداه في ضخامة مضرب التنس, ووقف عند الباب وهو يثنيهما، معاً في اضطراب ناظراً إلى الأرض مغمغماً وهو يقدّم نفسه في خجل.

إنه الشيخ محمود، وقد أتى ليُخبرني بمَدَى إعزازه لي.

وهو يعتقد منذ زمن طويل أنِّي رجلٌ طيبٌ جداً؛ ومهندس معماري معروف، وإداري أمين نشط، وأني أساوي نصف دستة من أي من الموظفين الآخرين في المصلحة.

وتضرَّج وجهي تواضعاً، وانتظرت لأرى ماذا يَرُدُّ.

وواصل حديثه مُحَذِّراً إيَّاي من المؤامرات الأفعوانية التي تُحدِقُ بِي، وأدلى لي مجاناً بمعلومات وافرة عن النَّوايا الشريرة لكل مَنْ قابلته في القرنة، وتوسَّع في ذكر مصير العديدين من المُوظفين سيئي الطالع مِمَّنْ اتخذوا مكاناً لهم في الفولكلور المصري عندما وقعوا ضحية للمكائد المصلحية.

وأنهى حديثه وسط شلّال آخر من المُجامَلات، بأن قال أنه سيُعد تنازلي بشُرب القهوة معه في اليوم التالي أكبر شرف يناله في منزله.

ووافقتُ وقد ضعفتُ نوعاً أمام فصاحته، ولرغبتي أيضاً في معرفة أهل القرنة معرفة أوثق.

وفي اليوم التالي، في الساعة العاشرة، ذهبت إلى بيته حيث استقبلني بالمزيد من التحيَّات السُّلطانية، التي كنت سأرحب بها أكثر لو أتتني مثلاً من المدير الجديد الذي حَلَّ مكان رُستُم، وهو مثال للموظف الحكومي، المُهم أنني لم أشعر بأي ارتياح له.

ودعاني محمود للداخل.

ودخلت وذهني مملوء بالحكايات التي تُروى عن كرم الضيافة الهائل البِدَائِي عند الفلاح، وأنا أدرك تماماً حُسن حظي في أني قد دُعِيتُ هكذا لأشارك هذا الرجل قهوته، بينما أحِسُّ أيضاً بشيء من العصبية خشية أن أفعل ما يُسِيئُ بطريقة ما للقانون السُّلوكي الصَّارم الذي يسُود بين هؤلاء القوم الذين وإن كانوا فقراء إلا أنهم ذوو نُبْلٍ.

وقدَّمَ الرَّجلُ لي زوجته -وهذا يُعَدُّ تبسُّطاً مُذهلاً بين أفراد عشيرته- وأمسكت هي بيدي وقبَّلتهُما بقوة وأنا مُحرَجٌ أيُّمَا إحراج.

ثم جعلني أجلس، وبينما كان يُقَدِّمُ قسطاً آخر من تحيَّاته وحكاياته المُحذِّرَة، أتت زوجتُهُ ومعها عُلبَة سجائر قديمة من الصفيح تمتلئ بالجعارين وبأحجار شبه نفيسة -عقيق وما أشبه- ودفعت بذلك بين يَدَيَّ، بينما أمرني هو أن اختار أيّاً مِمَّا أشاء.

وقلتُ له: ((إنه أنا الذي ينبغي أن أحْضِرَ لك الهدايا)) ((إن هذا لا يليق مُطلقاً))، ورفضت، بينما هو يُلِحُّ، ولكني لم آخذ شيئاً؛ وهكذا وضع الصُّندُوق بعيداً، وذكّرَنِي في شيءٍ من الاحتداد أنه حتى النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قَبِلَ الهديَّة.

ثم عاد بالحديث إلى المُوظفين المُهمِّين الذين عرفهم -البروفسير فلان والدكتور علان- وشرح لي أنهم جميعاً عرفوه ووثقوا به، وأنه في الحقيقة الرجل الوحيد الذي وثقوا به.

وأخيراً طلع بها.

هل يمكنه أن يعمل كمُلاحظ؟          

إنه يُحترم أقصى الاحترام في القرية ويستطيع أن يضمن لي ألا يُشَغِّلَ أحداً إلا مَنْ كان رجلاً أميناً جادّاً في عمله.

ومَرَّة أخرى وبأرق طريقة مُمكنة، أتى على ذِكْرِ ما هو معروفٌ عَنِّي من فطنة وعدالة، وهزَّ رأسهُ في أسى وهو يذكر قصَّة مُوظّف كبير آخر، أصَمَّ أذنيهِ عن كل نصيحة مُخلصة، فدُبِّرَتْ له المُؤامرات وفُصِلَ من الخدمة على نحو شائن وما لبث أن وقف، وأمسك بيدي وأنزل عينه مُحَمْلِقاً إليَّ في جدٍ، وأقسم بكل وأعظم الأيمان المُقدَّسة في ديننا أنني لابُدَّ أن أشرب فنجان القهوة.

والحقيقة أنِّي شعرتُ أنه لابُدَّ لي من ذلك، فقد بقيت الآن هناك طيلة ساعة ونصف السَّاعة.

ثم مَرَّ الوقت، ومحمود ما زال يُثَرْثِرُ، ثرثرة مُتَّصلة، وهو من آن لأخر يُلَمِّحُ بشدَّة إلى العمل الذي يطلبه، حتى أتت زوجته حوالي منتصف النهار ومعها صينية كبيرة.

وانتعشت معنوياتي، وكِدْتُ أحِسُّ بطعم القهوة وهي تُنبهني وتُنعشني، ثم وضِعَتْ الصينية بحيث أمكنني رؤيتها.

وكان يقبعُ عليها نمط من الطهي الفلاحي هو أكثر ما رأيت تنفيراً وقذارة وصفاراً وامتلاءً بالشَّحم.

كانت تلك الفطيرة، فطيرة ضخمة لزجة، أصابني مُجَرَّدِ النَّظر إليها بتسمُّم غذائي.

ومَرَّ بذهني كل الحكايات التي سمعتها عن الكبرياء القروي، وكيف أنهم حسَّاسُون، يُسارع إليهم الشُّعورُ بالمَهانَة عند أدنى بادرة.

وفكَّرتُ بالبدوي الذي ينحرُ آخرَ جملٍ لديه لإقامة وليمةٍ لعابر سبيل عارض.

ثم فكَّرتُ في موقفي بين أهل القرنة؛ واتَّخذتُ قراري.

ونهضتُ واقفاً وأقسمتُ بأعظم الأيمان المُقدَّسة في ديننا أنني قد أتيتُ لشُربِ القهوة وليس لأتسمَّم، وأنني لن ألمِسَ لُقمة من فطيرته المُقزِّزَة، وأنِّي إن لم أصِبْ شيئاً من القهوة فسوف أرحل.

ولم يبد عليه أنه قد أحَسَّ بالإساءة كثيراً؛ وهكذا جلسنا وانتظرنا بُرهة أخرى.

وبعد ربع ساعة أو ما يَقرُب، وصلت القهوة.

وتناولت الفنجان مُمتنّاً وكنت على وشك أن أشرب منه عندما رأيتُ أنه مُسْوَدٌّ بالقذارة، وأنَّ من الواضح أن حِرفة المشطوف المُلوَّث لم ير قط أي ماءٍ ولا منشفة، ولم أستطع أبداً أن أضعه على شفتي.

وعندها  كانت مشاعري تماماً فيما يتعلّق بإيذاء المشاعر القروية، ولابُدَّ أن الشيخ كان قد أخذ يتعوَّد على وقاحة أهل المدينة؛ ووضعتُ القهوة لأسفل وشكرتُ مُضيفي بأدبٍ، ورحلتُ، وأنا أديرُ في رأسي المشاريع لإقامة مركز صحي يُمكن لنساء القرنة أن يحضرن فيه دروساُ عن الطهي.

وحتى أوزِّع العمل بأكثر ما يمكن عدالة، رأيت أن أسأل شيخ كل نجع أن يعطيني قائمة بكل الأفراد اللائقين في النَّجع كعُمَّال، بحيث يُمكنني تعيين عدد مُعيَّن من العُمَّال من كل نجع، يتناسب وعدد سكانه.

وكتبتُ للمشايخ أشرح فكرتي، ولكن أحداً لم يَرُدَّ عليّ.

(واكتشفت فيما بعد أنهم يرفضون الإقرار على الورق بأي شيءٍ قد يُفسَّرُ فيما بعد على أنه يدلُّ على المُوافقة على نقل القرنة إلى الموقع الجديد).

وأخيراً أحضرتهم جميعاً في بيت الشيخ محمود، الذي كان ابناً للشيخ الطيب، ذلك الرجل المُبَجَّل.

وأخبرني المشايخ في اجتماعنا أنهم قد فوَّضُوا من قبل عبد الرسول والشيخ محمود -صديقي صاحب الفطيرة- تفويضاً كاملاً لجمع العُمَّال نيابة عنهم.

وهكذا وصل الأمرُ بي في النهاية إلى محمود؛ و لاشك في أنه قد مارس دبلوماسيته على إخوانه المَشايخ بما فيها من أفضل تأثير.

ورأيتُ أن الأفضل أن أفصل فصلاً حازماً ومُحدَّداً بين دائرتي نفوذ عبد الرسول، ومحمود.

وقد اثبت عبد الرسول نفسه بالفعل كمُلاحظ عُمَّالٍ جيدٍ جدير بالثقة، وكان عارفاً بالعمل في الموقع، وهكذا تركتُه مسئُولاً عن كل العِمَالة غير الماهرة مثل ضاربي الطوب، وحمَّالي المواد.

أمَّا الشيخ محمود فقد أرسلتُهُ بعيداً إلى المحاجر ليجمع العِمَالة غير الماهرة ويُشرف عليها، وهناك عيبٌ واحدٌ في جعل عبد الرسول مُلاحظ عُمَّال؛ فمن المُؤكَّد أنه كان يأتي بالعِمَالة، ولكنَّه كان يتحمَّس لذلك بأكثر مِمَّا ينبغي.

ولو كان الأمر بيده لجعل القرية كلها، رجالاً ونساءً وأطفالاً في قوائم عُمَّالِنَا.

وقد أحضرنا ذات مرة سبَّاكاً لتغيير الفلكة (الوردة) لإحدى المضخَّات، واكتشفتُ في نهاية الشهر أنه مازال يعمل عندنا.

وأصبح من المستحيل عملياً متابعة كل العُمَّال الذين أخذوا والتثبُّت من إنجاز العمل، ولم يكن صلاح سعيد التَّعِسْ يفعل شيئاً طول يومه إلا أن يُجاهد مع قوائم الأجور والإيصالات.

وفي النهاية جلستُ لهذه المُشكلة، وبعد أربعة عشر يوماً من الجُهد المُرَكَّز خرجتُ بنظام مُحاسَبِيٍّ مُحكَم يُمكننا من أن نعرف بالضبط مَنْ الذي يُدفع له الأجر، وعن أي عمل، وما إذا كان قد أنجز هذا العمل.

وحسب هذا النظام الذي شرحته شرحاً تاماً في المُلحق (1)، لا يمكن لعامل أن ينال أجراً إلا إذا كان هذا مسمُوحاً به حسب تقدير قد تمَّ صُنعه قبل أن يتمَّ أيِّ جُزْءٍ بعينه من العمل.

وهذه التقديرات تُقدَّر حسب قواعد مُعيَّنة قد وضعناها لأنواع العمل المُختلفة.

وقد مكَّننا هذا النظام أيضاً من أن نُدرك في لمحةٍ حالة موادنا للبناء ومواردنا المالية وأن نستخرج من حساباتنا الضخمة، التكلفة المُعيَّنة لأي بناءٍ بمُفرده.

بل إنني أستطيع الآن أن أحَدِّدَ لك لأقرب قرش سعر كل عُنصر منفصل في أحد البيوت، وكأنني أبيع في دُكَّان أشياءَ مُسبقة الصُّنع من قباب، وجدران، وأقبية؛ ويمكنني جمع الأسعار لأخبرك كم سيُكلفُك منزلك المُكتمل.

وعندما تم تنظيم العِمَالة والتحكُّم فيها هكذا، أخذتُ في تشغيل المزيد من البنَّائين في مُهِمَّةِ البناء الحقيقية.

وأحضرتُ اثني عشر بنّاءً آخر من أسوان ووجدتُ البعض في الأقصر، بحيثُ لم يمض وقت طويل إلا وكان عندنا أربعون بنّاء كُلُّهُم يبنون البيوت بأسرع ما يُمكنهم.

وركّزنا على مُجاورة الخان.

وبدأ أول شارع ينمو لتتضح معالمه سريعاً جداً.

وكنت جداً مُنفعل إذ أرى قريتي وهي تتخذ شكلها تحت عيني، وكان صبري جد نافذ حيال كل ما نخبره من تعطيلات.

وحفرنا أساسات المسجد (وقد وُجِّهَ التوجيه الصحيح هذه المَرَّة) وكنت سأبدأ العمل فيه أيضاً، ولكننا كنا مازلنا نعتمد على الجِمَال في الحصول على حجارتنا، وكان وضع أساسات المسجد يتطلّب حجراً أكثر مما يمكنه توفيره هكذا، حتى ولو أوقفنا كل عمل آخر، ذلك أنه كان مبنى كبير جداً.

وكنت أنتظر الشاحنتين اللتين طلبتهما بمُجرد أن عرفنا بأننا حصلنا على الموقع في أغسطس 1945.

وأخيراً في 10 ديسمبر 1945 وصلت شاحنة واحدة، وكانت الأخرى قد وصلت لحيازة المصلحة ولكنها خُصِّصَت لأحد الأثريين مِمَّن لهم أصدقاء أكثر مني.

وبعملية حسابية بسيطة تبيَّن أننا بهذه الشاحنة الواحدة سنستغرق ثلاث عشرة سنة لننقل إلى موقع الحجارة المطلوبة للأساسات وحدها.

وبَيَّنتُ ذلك للمصلحة في خطاب، وذكَّرتهم أيضاً أنني لم أتسلّم مُعدات التحجير التي طلبتها.

ولا حاجة للقول بأنه لم يكن هناك بعد أي أثر للقش، وسُرعان ما تنامت هذه المشكلة لتُصبح أكبر مشاكلي.

واضطررتُ لاختصار عدد فرق ضاربي الطوب من خمسة وعشرين فريقاً إلى ثمانية، وبالتالي حذفتُ عدداً من البنَّائين، واحتفظت فقط بالأسوانيين، الذين لم أكن استطيع إعادتهم ثانية لبلدهم البعيد.

وكان هؤلاء الرجال قد عانُوا من قبل بما يكفي بسبب ما يحدث من تأخير طويل قبل أن تصلهم أجورهم؛ وكان على الكثيرين منهم أن ينتظروا، وأن يظلوا يعملون لشهور ثلاثة قبل أن يروا أي أجر على الإطلاق.

وكان أهل القرنة يتمكَّنُون في سعادة من هؤلاء الرجال التُّعساء ويُقرضُونَهُم الطعام والنقود بفائدة باهظة، بحيث لم ينل الأسوانيين شيئاً قط من عملهم في القرنة، وذلك فيما عدا قلة منهم.
* * *



لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49335
العمر : 72

لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي Empty
مُساهمةموضوع: رد: لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي   لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي Emptyالثلاثاء 31 ديسمبر 2019, 10:35 pm

القشَّة التي قصمت ظهر البعير

حتى أجعل حركة العمل مُستمرة، واصلتُ شراء القش بكميات كبيرة ضئيلة من حساب احتياجاتنا البسيطة المُحتفظ به في الأقصر.

وهذا الحساب لا يزيد رصيده على عشرين جنيهاً، وهكذا فإن تكرار شرائنا للقش بخمسة جنيهات كل يومين أو ثلاثة، كان يستنفذ هذا الحساب باستمرار، والحقيقة أنه ما كان ينبغي أن استخدم هذا الحساب بهذه الطريقة، ولكن البديل الوحيد لذلك كان أن أتوقف عن العمل تماماً، الأمر الذي سيكون أكثر تكلفة إلى حَدٍ بعيد.

وتصادف حوالي ذلك الوقت أن سمعتُ من أحد الأصدقاء عبارة مفيدة جداً: ((إنني أعدك مسئولاً عن إهدار الأموال الحكومية)).

وكتبتُ إلى الإدارة لأخبرها بما أصاب عملنا من بطءٍ واتهمتهم بإهدار الأموال الحكومية إذ يُماطلون بشأن القش.

ومن الواضح أن ذلك أصاب منهم موضعاً حسَّاساً، ذلك أنهم ابتكروا خطة بارعة للتخلص نهائياً من كل مشروع القرنة.

والحقيقة أنهم قاموا فعلاً باستعجال مسألة الحصول على عطاءات للإمداد بالقش وفي البَتِّ في هذه العطاءات، ولكنهم في دهاءٍ بالغ كلّفوا المُوظف الذي أرسلوه لتسيير إجراءات البَتِّ بمُهمَّة إضافية هي أن يُوجِدَ أيَّ عُذْرٍ لإيقاف المشروع كله.

وبعد بضعة أيام من استطلاع مُثابر، كتبَ هذا الشخصُ تقريراً لأسياده بوجود مُخالفتين خطيرتين في عملياتنا.

فقد حوَّلنا حساب المصروفات الصغيرة المحلي لأغراض خبيثة بإنفاقه كله على القش، كما أن مُعظم هيئة العاملين عندنا غير مؤهلين لوظائفهم.

وهذا الاتهام الثاني وإن كان ما يُبرِّره، إلا أنه من الغريب أن يأتي من نفس الموظفين الذين فرضوا هؤلاء المُساعدين غير المؤهلين عليّ.

وعلى كُلٍّ، فقد نجحت خطتهم، وتَمَّ بأسرع وقت اتخاذ قرار بوقف العمل في القرنة فوراً ونقل كل المسئولية بأسرع ما يمكن إلى وزارة ما أخرى.

وتجسَّد هذا القرار في تقرير كبير دار على كل المصلحة لتجمع عليه التوقيعات والأختام.

ووصل أخيراً إلى مكتب وكيل الوزارة شفيق غربال، إلا أنه بكل ما هو أهل له من ثقة عظيمة، لم ترهبه التوقيعات المُكَدَّسَة لأفراد مصلحته ورفض أن يُوَقّعَ عليه.

وكان من هذا الرفض غير المُتَوَقّع أن أسْقِطَ في يَدِ المُتآمرين تماماً، ووجدوا أنفسهم في التَّوِّ وقد وقعوا في شباكهم هم أنفسهم.

وتَمَّ صرف الموظفين غير المُؤهلين وسُرعان ما عرفوا أن الإدارة هي التي صرفتهم.

وأحسُّوا بأشد النّقمة على رُعاتهم السَّابقين وأخذوا في نشر الشيء الكثير من الشائعات الخبيثة، التي لم ألق سمعاً إليها؛ وكنت جداً سعيد بالتخلص منهم، ولم اهتم أدنى اهتمام بتبرير شأنهم الأمر الذي ربما يؤدي إلى إعادتهم.

كان المتآمرون جداً واثقين من النجاح حتى أنهم توقّفوا عن شراء المزيد من مواد البناء، وهكذا فعندما عاد نظام الشراء إلى فعاليته ثانية كانت السنة المالية قد انتهت.

وحتى استفيد بما تبقّى من ميزانيتنا اشتريت مواسير للمياه للمشروع كله، 10.000 متر؛ ورغم هذا فقد أعدنا للمالية 6000 جنيه مِمَّا كان مُخصصاً لنا.

وقد عملنا إجمالاً ثلاثة شهور ونصف الشهر من بين عشرة، وبنينا شارعاً واحداً صغيراً.

خطة لكسر الجسر:
في الوقت السَّابق مباشرةً لرحيلي للإجازة في صيف 1946، سمعت إشاعة مُزعجة للغاية.

فقد قيل أن بعض أهل القرنة يُخطّطُون لهدم القرية النّامية بأن يكسروا الجُسُور التي تحجز مياه النهر بعيداً أثناء الفيضان السنوي.

وكما سبق أن شرحتُ، فإن الكثيرين من أهل القرنة لم يكونوا سُعداء على الإطلاق لِمَا يُرتقب من أنهم سيغادرون أكواخهم التي تجلب لهم الربح بموقعها بين المقابر، وأنهم سيكون عليهم أن يعملوا ليكسبوا عيشهم.

وسيكون من السَّهل عليهم جداً والنهر في قِمَّة فيضانه أن يتسلّلوا زاحفين في ليلة ظلماء وينقبوا الجُسُور التي تحمي الحُوش.

وعلى الفور اتخذت احتياطاتي؛ واشتريتُ الكثير من حِزَمِ البُوص لتُساعد في سَدِّ أي ثغرات قد يتم إحداثُها؛ ونظّمت حراسة دائمة من اثني عشر خفيراً لحراسة الجسر الغربي (وكان هذا جسراً خاصّاً يمتلكه كامل بولس؛ أما الجُسُور الثلاثة الأخرى فتمتلكها الحُكُومة وكانت مخفورة جيداً)؛ وجعلت عُمْدَةَ القرنة يُوَقِّعُ إقراراً بأنه هو نفسه المسئُول عن سلامة القرية الجديدة؛ وبَلّغت الإدارة هي والرئيس المحلي للشرطة بالتهديد وما اتخذته من إجراءات ضده.

وكان فيضان النيل في ذلك العام عالياً عُلُواً غير مُعتاد، ولكن أحداً لم يُحاول إدخاله إلى القرنة الجديدة.
* * *



لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49335
العمر : 72

لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي Empty
مُساهمةموضوع: رد: لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي   لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي Emptyالثلاثاء 31 ديسمبر 2019, 10:37 pm

الموسم الثاني: 1946- 1947
القش ثانية:
رغم أننا الآن قد حصلنا من حيث المبدأ على إذن بشراء المواد والمُعدَّات، إلا أنه كان علينا أن نبدأ ثانية منذ البداية بأن ندعو لعطاءات توريد القش.          

وهكذا لم نحصل على القش في الموقع إلا في 15 أكتوبر 1946، واستطعنا أن نبدأ العمل.          

وكان لدينا أيضاً إذن بشراء ثلاث شاحنات أخرى، ولكنها لم تظهر إلا في وقت متأخر جداً عن ذلك؛ كما لم يظهر مساعدونا الجُدُد المُؤهلين بما يُناسب، والذين عُيِّنُوا من منطقة قنا.          

وطوال ذلك الوقت كان المدير الجديد للقسم الهندسي الذي حَلَّ مكان رستم معوقاً للغاية.          

وكتبتُ له مراراً وتكراراً عن الشئون العاجلة المتعلّقة بالقرنة -وذلك غالباً بشأن عدم ظهور الشاحنات والمُساعدين- ولم يَرُدَّ على أيٍّ من خطاباتي.

ورغم هذه المُزعجات فإن العمل بدأ بداية جيدة جداً، وبنينا مُعظم ساحة السُّوق، وأتممنا الخان، وأعدنا حفر أساسات المسجد.

وفي نوفمبر 1946 أنْبِئْتُ بأن مبلغ ال 15.000 جنيه المسموح به لي في هذا الموسم لم يبق لي منه إلا 6831 جنيهاً.          

وكنا قد اشترينا بالفعل معظم موادنا، ولَمَّا كانت قائمة أجُورنا الشهرية تبلغ حوالي 1000 جنيه، فقد حسبت أننا نستطيع العمل لسبعة شهور أخرى، حتى نهاية يونيو 1947.          

ثم وصلني في 29 ديسمبر 1946 خطاباً من إدارة الحسابات يقول أنه لم يتبق لنا إلا 1403 جنيهات (رغم أنني لم اشتر شيئاً منذ نوفمبر ولم أدفع أكثر من أجور شهر واحد) وحذّرتني إدارة الحسابات من أنني لو تعاملت بالدَّين لأجور بأكثر من هذا المبلغ  فإن الإدارة لن تَسُدَّ هذا الدَّيْنِ.          

وكما اتفق، كنت قد أنفقتُ بالفعل أكثر من هذا المبلغ عند وصول الخطاب إليّ، وعلى أي حال فما كنتُ أستطيع أن أخرج للملأ وأخبر كُلَّ واحِدٍ أن يرمي مُعدَّاتِهِ ويعود لبلده.          

وكتبتُ رداً غاضباً لأقول أننا لا نلعب في روضة أطفال، حتى نبدأ العمل ثم نوقفه كل بضعة أسابيع، وأنَّ لدينا عدداً من المباني نصف المُكتملة لا يمكن تركها على هذا الحال.          

وعلى أي حال فما كان يمكننا أن نواصل العمل دون نُقُود؛ وهكذا انتهى العمل بالتوقف ثانية في يناير 1947، ليُستأنف في سبتمبر.
* * *



لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49335
العمر : 72

لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي Empty
مُساهمةموضوع: رد: لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي   لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي Emptyالثلاثاء 31 ديسمبر 2019, 10:38 pm

المِضَخَّة

أثناء الموسم الثاني لاقيتُ المثل السَّيئ بالذَّات للموظف الذي يستخدم مركزه لابتزاز فلاح لا حول له، فقد وجدنا أن المضخَّات اليدوية التي كنا نستخدمها لإمداد الموقع بالمياه لا تستطيع الإمداد بما يكفي: وبالتالي فقد طلبتُ من الإدارة وحدة مضخّة بمُحَرِّك.

ورَدُّوا عَلَيَّ ليخبروني أن المُحَرِّكَ والمِضَخَّة سيتكلفان 140 جنيها والمواسير 460 جنيها بإجمالي 600 جنيه.

ولَمَّا كان هذا أكثر مما نستطيع تحمّثل تكلفته حقاً، فقد أخذتُ أبحث عن طريقة ما للتوفير.

وعندما أصبح معروف أنى أطلب مواسير، ذكر لي إبراهيم حسن أن لديه ما يقرب من 20 متر من المواسير فوق أرضه لم يَعُدْ مُحتاجاً إليها وعرض أن يبيعها كلها لي وأن يُرَكِّبَهَا في المَوقع مقابل 45 جنيها.

وأوصلت هذا العرض في التو إلى الإدارة، وكالعادة لم يَرُدُّوا عَلَيَّ.

وكتبتُ مرَّةً ثانية، ووصلني خطاب بالرَّدِّ من الهندسة الميكانيكية يقول أن الثمن منخفض جدًا جدًا  جدًا، بما يُشير إلى أن هذه المواسير لا يمكن أن تكون جداً صالحة.

ومَرَّ شهران، وأخبرتني الإدارة أثناءهما عندما حدث ورَدَّتْ على خطاباتي، أن هذا الطلب يجب أن يتم عرضه على وزير المالية ليوافق عليه؛ على أنهم لم يرسلوه عليه، وبقيت دون مضخّتي، وإن كانت قد حسب حسابها بالفعل ضمن المشتروات التي التهمت ميزانية هذا العام، وسوف توضع في ميزانية العام القادم إن لم يتم شراؤها وتركيبها أثناء موسم العمل الجاري.

وكنتُ من قبلُ مُنزعجاً للطريقة التي يُبدِّدُ بها البيروقراطيون النقود -فمثلا في حالة الشاحنات الثلاث التي طلبنا شراءها، أخبرونا أننا يجب أن نأخذ معها هياكلها المُصنَّعة تصنيعاً خاصَّاً لها بسعر 200 جنيه للهيكل الواحد، بينما توجد هياكل من مُخلّفات الجيش تُباع بسعر 15 جنيها للواحد- وهكذا كتبتُ خطاباً أبَيِّنُ فيه أني أحاول أن أوفر 415 جنيها من ميزانيتنا، وكرَّرتُ تهديدي بأني سأعِدُّ الإدارة مسئولة عن إهدار الأموال الحكومية.

وجعلهم هذا التهديد يُمَرِّرُونَ الطلب إلى وزارة المالية؛ وبعد ذلك مباشرة كنتُ في مكاتب المصلحة عندما همس لي أحد الموظفين هناك بأن من الحكمة أن أحصل على المواسير مقابل 45 جنيها؛ ولَمَّا كنتُ أنا الذي قلت بمبلغ الخمسة والأربعين جنيها، فإنني لم أفهمه وقتها، وظننتُ أنه يحاول يتواقح.

وعُدْتُ إلى القرنة ولاحظت أن إبراهيم حسن الذي كان عادةً يحرص على الحضور للقائي في المحطة، كان غائباً مِمَّا يُنذرُ بالسُّوء.

وعندما لم يظهر طول اليوم، أرسلتُ أحدهم في طلبه وقال الرسول أنه في الأقصر؛ وهكذا أرسلتُ مرة ثانية في اليوم التالي، ونبَّهتُ على الرسول ألا يعود بدونه.

وحين تمكَّن من إحضار إبراهيم في النهاية ليراني، أخبرني أنه قد سحب عرضه، الذي كان مُنخفضاً جداً جداً جداً، وأن عملية دَقِّ المواسير تكلف وحدها أكثر من 45 جنيهاً، وأن ثمن المواسير نفسها سيكون 700 جنيه.

وغضبتُ منه أشّدَّ الغضب، ولم يُفلح توبيخي له في زحزحته وقرَّرتُ في النهاية أن أجعله يُفَسِّرَ مَسْلَكَهُ هذا على الملأ.

وطلبتُ من عديدٍ من أقاربه أن ينضمُّوا إلى مُساعدتي وإلى الناس الذين سمعوه بالفعل وهو يُقدِّمُ عرضه بحيث يمكننا أن نُشَكِّلَ نوعاً من ((محمكة قِبلية)) يستطيع إبراهيم أن يفسر فعلته أمامها.

ورفض إبراهيم أن يذكر شيئاً من أنه لا يستطيع تنفيذ عرضه، ولم يزد على أن ظلَّ واقفاً هناك في عناد وقلق.

وفي النهاية علّقتُ بمرارة بقولي أن الواحد يستطيع أن يُحَدِّدَ ثمناً لمعظم الأشياء، على أن الإنسان لهو فوق أي ثمن إلا لو وضع لنفسه ثمناً بأن يسحب كلمة الشرف منه.

والآن، فإني أعرف ثمن إبراهيم.

إنه 700 جنيه.

ويمكنني أن أكتبه على بطاقة ألصقها على ظهره.

ثم التفتَ إليَّ أحَدُ أصدقائي مِمَّنْ كانوا يرقبون هذ ه الإجراءات، وهو المُصَوِّر ديمتري بابا ديمو وقلتُ له بالإنجليزية، ((كم كنت أوَدُّ لو أنِّي تعاملتُ مع جاري (الشيخ علي).

فأنا أعرف أنهم جميعاً يمكنهم فهم الإنجليزية، وأن تعليقي سيكون له تأثيره أعظم لأنه في الظاهر غير موجه لهم.

وعندها قفز الشيخ علي على قدميه وصرخ في إبراهيم: ((لا يمكن أن يكون بيننا في العائلة رجل يُخِلُّ بكلمته، وأقسم لك الآن أننا سوف نرميك بالرَّصاص)).

وعندها انهار إبراهيم التَّعِس وأخذ يبكي.

وأخيراً قال أنه سيذكر لنا الحقيقة كلها.

فقد جاء من القاهرة المهندس الميكانيكي للمصلحة ومعه رئيس قسم المخازن، وأُحضر إبراهيم إلى مكتب الأمين ليلقاهم.

وهناك في حضور أحد كتبة التفتيش، سألوه عن عدد ما يحوزه من فدادين الأرض.

وأجابهم إبراهيم أنها خمسة.

((إذن فسوف تفقد الفدادين الخمسة كلها لو قمت بتلك العملية مقابل 45 جنيهاً، إن الثمن المُلائم للمواسيرهو 700 جنيه، لقد غشَّك فتحي، وعلى أي حال فإنه ليس لديه سُلطة التوقيع على هذه العملية؛ وأنا مَنْ له هذه السُّلطة، وإذا لم تَعُدْ لتُخبرهُ بأن الثمن هو 700 جنيه، سنخرب بيتك أنت وعائلتك كلها)).

وقلت لإبراهيم بعد اعترافه هذا أنه كان ينبغي أن يحضر لي في التَّو.

وشرحتُ له أن سعره الأصلي كان سعراً عادلاً، لأن الثمن الجاري للمواسير هو 90 قرشاً للمتر، مما يجعل كل إجمالي ثمنها حوالي 18 جنيهاً ويبقى 27 جنيهاً لدق المواسير.

وإذ هدَّأتُ من رَوْعِهِ هكذا، وافق على سعره الأصلي ووقّع أمام كل الشُّهُود اتفاقاً بهذا المعنى، وهو مازال يبكي.

وعلّق ديمتري بأنه يبكي بإحدى عينيه خجلاً وبالعين الأخرى حسرةً على الجنيهات السَّبعمائة.

وبعد هذا الدليل المُذهل على سُوءِ النِّيَّة المُتعمَّد عند أفرادٍ بعينهم في المصلحة، سمحتُ لنفسي بتصرُّفٍ واحدٍ من المكر الدَّنِئ حتى أكشفهم.

وأرسلتُ خطاباً للمدير العام، ولكني لم أذكر فيه شيئاً عن الاتفاق النهائي مع إبراهيم، بحيث لا يدري أحَدٌ أن العملية سوف تتم رغم كل شيء مقابل 45 جنيهاً.

وسألتُ فحسب، كيف يجرؤ هؤلاء الناس على الاتصال بأحد المُوَرِّدِين في مُحاولة لأن يجعلوه يُخِلُّ باتفاقه.

وجاءني رَدٌ غريبٌ جداً، يذكر أن المهندس الميكانيكي قد اتصل بإبراهيم قبل أن تصل للإدارة موافقة وزير المالية على طلبي، فليس هناك أي مخالفة.

واستطرد الخطاب ليقول أنني الآن مُلزم بإنهاء العملية بما لا يزيد على 45 جنيهاً.

وكان هذا الخطاب شاذاً في أنه قد تم توقيعه من المدير العام نفسه دون أي توقيع آخر.

ولم يكن عليه حتى ولا الحروف الأولى لاسم الطابع.

إلا أنه كان باللغة العربية، والمدير العام -مسيو درايتون- لا يستطيع القراءة العربية (فهو وإن كان يوقع اسمه بالعربية، إلا أنه كان يرسم هذا التوقيع) ورغم هذا فقد رَدَدَتُّ بخطابٍ أطلبُ فيه تحقيقاً رسمياً في تصرُّف المُهندس الميكانيكي، ورئيس قسم المخازن، وكاتب التفتيش.

وذكرتُ أيضاً أن العملية المذكورة قد تَمَّ إنجازُها مقابل الجنيهات الخمسة والأربعين المُتعاقد عليهاً أصلاً، مُبَيِّناً بذلك فشل المؤامرة.

ولم يصلني رَدٌ على هذا الخطاب.

وفي وقتٍ لاحق، حينما أظهر القصر اهتماماً بالقرنة، أرسلتُ تقريراً بهذه المَكيدة بالذَّات، ووصلني في التّو برقية من وكيل الوزارة تقول أن اتهاماتي خطيرة للغاية وأنه سيأتي شخصياً لتقصِّي الأمر.

وأتى الوكيل ثم أرسل محامياً من المصلحة.

وفيما كنت أروي القصة لهذا المُحامي، ظل يتواثب مُرتاعاً وهو لا يكاد يُصَدِّقُ أذنيه.

ثم قال ((ولكن هل لديك دليل كتابي؟))

وكنتيجة لتحقيقاته تبيَّن لنا أن المهندس الميكانيكي طاف على كل مُوَّردي مواد البناء في الأقصر، مُحذِّراً إيَّاهم من أن أحصل حتى على بوصة من المواسير.

ومن الواضح أن الرجل كان مُصمماً على استخدام هذه العملية لتخريب المشروع كله.

وسمعت أيضاً أن هذا المهندس قد خُصِمَ منه ثمانية أيام من مرتبه.
* * *



لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49335
العمر : 72

لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي Empty
مُساهمةموضوع: رد: لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي   لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي Emptyالثلاثاء 31 ديسمبر 2019, 10:41 pm

الكوليرا

اندفع وباء الكوليرا في قرية القُرَيْن 1947 وانتشر سريعاً جداً في كل دلتا مصر، لأن الحكومة وقد أخِذَتْ على غِرَّةٍ، فلم تكن لديها الوسيلة لمكافحته.

ورغم أن القرنة في صعيد مصر، فقد رأيت أن من الحكمة اتخاذ إجراءات من الحَيْطَة ضد إمكانية لاندلاع الوباء هناك.

والقرنة القديمة فيها ملايين من حشرات الذباب ترعى في نفس الآبار المفتوحة التي يحصل القرويون منها على ماء شُربهم، ولما لم يكن هناك مراحيض، فإن حالة واحدة من الكوليرا ستجلب كارثة أكبر من وباء ملاريا الجامبيا الذي قضى على ثلث السكان في 1943 - 1944.

وأول ما كان ينبغي فعله هو تحليل مياه البئر، ولم نكن نهدف إلى معرفة ما في المياه بقدر ما كان هدفنا هو أن نُجبر السُّلطات على أن تفعل شيئاً بهذا الشأن.

وكانت نتيجة التحليل، أن عدد البكتريا: لا يُحصى؛ والتخمُّر اللبني: 80 في المائة (بينما أقصى حَدٍ مسمُوح به هو 20 في المائة).

وهكذا فإن الحل الوحيد كان أن تُدقَّ عِدَّة مواسير لجلب المياه من عًمْقٍ بعيد جداً وأن يُمنع الناس من استخدام الآبار المكشوفة.

ولم يكن هناك مضخَّات في السَّوق لأن الحكومة اشترتها كلها لمناطق الوباء.

ففكَّرتُ في استخدام المضخّات التي كانت تجلب الماء لضرب الطوب، ولكن هذا يتطلّب انتزاعها من المَوقع لتُرسل ثانية إلى القرية القديمة، وهكذا كان عليَّ أن أحصل على تصريح من مصلحة الآثار، وذهبتُ في التَّو إلى القاهرة وقابلتُ المدير العام، مسيو داريتون، وأقنعته بأن الماء النظيف سيستفيد به الأثريون وموظفو مصلحته، الذين كانت استراحاتهم لحُسن الحظ مُبعثرة على كل القرنة القديمة، ولم اذكر له أن مضخَّاتنا ستمُدُّ القرويين أيضاً بالمياه.

ووافق من حيث المبدأ، ولكنه أحالني على مدير التفتيش، الذي كان يجب أن يوافق على النقل.

وبمقابلة هذا الرجل النبيل آلمني ما لقيته من رفض باتٍ للنظر في طلبي.

فهذا الأمر، على حَدِّ قوله هم من شأن وزارة الصِّحَّة العُمومية، ولا شأن له به.

وبيَّنتُ له أن وزارة الصحة العُمومية لديها 20 مليون فرد ترعاهم وأن المصلحة مسئولة عن صحة موظفيها الذين يعملون في القرى البعيدة ويتعرَّضون للعدوى.

وكان كل ما قاله: ((يروحوا في داهية)).

وأجبته: ((لولا قدر الله ومات رجل واحد بينما أنا عندي وسيلة لإنقاذه وأرفض ذلك، فإني إذن أعِدُّ نفسي قاتلاً)).

وتركته وقد صمَّمتُ على أن أمضي قُدُمَاً دون موافقته، ووصلتُ إلى المنزل وقراري لم يتزعزع.

سوف آخذ أول قطار يعود للأقصر، وأذهب مباشرةً إلى الموقع، واقتلع المضخَّات، وأدقها متحدياً في القرنة القديمة.

إن الإنسانية لتتطلب مني أن أنَفِّذَ القانون بيدي.

وفتحتُ الصحيفة لأجد أن الحكومة قد قرَّرت عزل صعيد مصر وأغلقت كل الطرق والسكة الحديد.

كان عليَّ هكذا أن أبقى في القاهرة حتى تسرَّب الوباء إلى الصعيد، وعندها سُمِحَ لي بعد ترو أن أذهب إليه.

وأخذت أول قطار خرج من القاهرة وأنا في قلق شديد، ذلك أن أول حالة ظهرت في الصعيد كانت في بلاص، التي لا تبعد عن القرنة إلا بعشرين ميلاً.

وبلاص هي مصنع فخار مصر -والحقيقة أن كلمة ((بلاص)) تعني قدر الماء الفخاري الكبير الذي تحمله نساء مصر على رؤوسهن- وقد وصل المرض إلى هناك بواسطة المراكبية الذين ينقلون قدور الفخار أعلى وأسفل مصر.

وما إن غادرت القطار في الأقصر، حتى عبرت النهر إلى الضفة اليسرى، حيث ينتظرني عادةً سائقي ((الأسطى)) محمود رمضان، على أنه لم يكن هناك، وأخبروني أنه يحس بوعكة.

وقيل لي أنه حتى الآن لم تظهر أي حالة كوليرا في القرنة، وكان في هذا ما هدَّأ من رَوْعِي هدوءاً عظيماً، وهكذا انطلقت لرؤية الأسطى محمود.

ووجدته في الفراش وقد أفاق تواً بعد ان ظل فاقداً للوعي لثلاثة أيام.

ولذهولي وجدت أنه لديه كل أعراض الكوليرا -القيء والإسهال والحُمَّى- ومع ذلك لم يخطر قط لأي فرد أن يستدعي طبيباً حتى سمع مستر ستوبلير بمرضه، وشَكَّ في الأسوأ، فأحضر طبيباً للتَّو.

وعندما تساءلت لماذا لم يقم سكرتيري السيد/ جاد بأي إجراء لمساعدة محمود، شرح لي أنه يقدم طلباً كتابياً حسب اللوائح.

وتذكرت شعار المصلحة: ((يروحوا في داهية)).

شُفِىَ محمود فعاد إلى شاحنته، ولكن كان من الظاهر أنه يعتقد أن بي ضعفاً تجاهه لأني غضبتُ جداً من السكرتير.

وكنت دائماً أميل إلى محمود لأنه كان السائق الوحيد الذي يستطيع صيانة شاحنته كما ينبغي، وهكذا فإنه أراد أن يستغل هذا لأقصى ما يستطيع، فأتاني في اليوم التالي طالباً مني أن أعطي ابنه عملاً كعامل.. ولَمَّا كان ابنه لا يتجاوز التاسعة، فقد شرحتُ له أن عليه أن ينتظر حتَّى يُصبح أكبر سِنّاً بعض الشيء، الأمر الذي جعل محمود ينصرف ساخطاً.

وبعد نصف الساعة عاد ثانية وأبلغ بأن ماسورة الفرامل في شاحنته قد انكسرت.

وقلت ((حسناً، اذهب وأصلحها)).

وذلك كما كان يفعل عادةً، ولكنه شَدَّ من نفسه واقفاً وقال: ((أنا لست ميكانيكياً يا سيدي)).

حتى أنت يابروتس.

إنه موظف حكومي؛ فلماذا يكون مختلفاً عن الباقين؟          

وحرَّكتنِي الواقعة لأقول شعراً*:
كل واحد ليس إلا خرزة زجاجية ملونة رخيصة تافه.
والكل مربوط معاً في خيط واحد من الشجع.

وفي اليوم الأول من عودتي تَمَّ لي انتزاع المضخَّات وإحضارها للقرنة القديمة، حيث ركَّبناها عند نقطة استرتيجية قرب القرنة.

وإذ توافرت وسيلة للحصول على ماء نقي، كانت المُهِمَّة التالية هي حَثِّ القرويين على الاستفادة بها، أوبالأحرى صرفُهم عن استخدام الآبار المفتوحة.

وعلمتُ في ذلك الوقت أن المستشفى قد وُفِّر له طبيب في التّو.

وكان في القرنة مستشفى صغير، لا يوجد فيه طبيب إلا إذا كان ثمَّة رسميون مُهمُّون على وشك زيارة الآثار.

وعندها يُرسل طبيب من الأقصر ويؤجَّر بعض القرويين ليمثلوا دور المرضى.

وكانت الحكومة قد عبَّأت كل الأطباء بسبب الكوليرا، فأرسلت واحداً منهم للقرنة.

وكان اسمه حسين أبو سِنَّة؛ وكان قد تخرَّج لتوه، وهو شابٌ لطيفٌ جداً وعلى خُلُق.

وذهبت إليه لأضع نفسي وكل رجالي تحت تصرفه لمُكافحة الوباء.

ونظرنا معاً في التعليمات التي صدرت للاطباء اثناء وباء 1903، فلم يكن تحت أيدينا اي شيء غير ذلك.

ولم يكن لدينا مُصْل، وكان هناك القليل من المُطهَّرات، وكان علينا أن نعتمد على مواردنا الخاصة بنا.

وكانت التعليمات تُوصي باستخدام الجير الحي، وهو مما نستطيع إنتاجه في قمائننا.

والكوليرا تنتقل عن طريق الفم.

ومَادُمْتَ لم تبتلع الجراثيم، فإنك لا تُصابُ بالمرض.

وهكذا اتجهت كل احتياطاتنا إلى التأكُّد من عدم وجود أي احتمال لأن تدخل الجراثيم إلى فم أي فرد.

وكان علينا أولاً أن نجعل كل فرد يفهم أهمية مُراعاة كل الاحتياطات مراعة صارمة.

فينبغي ألا تكون هناك أي ثغرة، ولا أي إهمال على الإطلاق، في إجراءاتنا الوقائية!

وعلينا أن نتشدَّد تَشَدُّد الجرَّاح في غُرفة العمليات.

فيجب أن تغلي المياه كلها، سواء للشرب أو الغسيل.

ولا يؤكل أي مما يمكن أن تكون فيه جراثيم.

وكمثل، فإن الرُّوتين عند العودة من السُّوق إلى البيت يكون كالتالي: الدخول إلى البيت، وضع كيس الخضروات مباشرةً في ماء يغلي، مع الحرص على عدم وضعها قبل ذلك فوق أي شيء، غسيل الأيدي بالليزول، مسح أكرة الباب بالليزول مثلما يزيل بصماته؛ وبعدها تصبح جاهزاً.

وكان علينا أن نجعل القرويين يُدركون أن أي غريب قد يجلب المرض إلى القرنة، وبالتالي يجب عدم تشجيع وجود زوار.

وحتى قوانين الضيافة التقليدية يجب أن تتوقف، ويجب الإبلاغ عن أي زائر السلطات.

وكان هذا أمراً شاقاً بالنسبة لأناس يجعلون دائماً من مفاخرهم إخفاء ((المطاريد)) بعيداً عن الحكومة، بل وأن يواروا المرضى بعيداً عن أي فرد ينقلهم بعيداً إلى  المستشفى.

ورأيت والطبيب أن الحكمة أن نطلب مساعدة الشيخ محمود الطبيب، وهو ابن الشيخ الطبيب الرجل الصالح البالغ الكبر والذي يُبَجِّلُهُ كل القرويين أبلغ تبجيل.

والشيخ محمود كان سيخلف والده، وكان له أيضاً هو نفسه نفوذ كبيرة جداً.

فهو إمام مسجد القربة ويستطيع أن يشرح إجراءاتنا للفلاحين في خطبة يوم الجمعة وبالتالي فقد دعوناه إلى((لجنتنا)) لمكافحة الكوليرا.

وأثبت أنه جداً مُفيد لنا، فهو سريع في فهم الموقف واستيعاب التفاصيل الطبية المطلوبة.

ولَمَّا كان هناك ما يقرُب من ثلاثمائة من القرويين يعملونا معنا، فقد قرَّرنا تعميم حملتنا الصحية عليهم.

وجمعناهم معاً وتكلّمنا إليهم، مُحاولين أن نجعلهم  يفهمون السَّبب في احتياطاتنا.

وحتى نساعدهم على إدراك ما يكونه الميكروب، ((كبَّرنا)) لهم الجراثيم ووصفناهم لهم وكأنها نمل يُطلق على كل الأدوات المُلوَّثة، ويمكن أن يتخلف على أي شيء تلمسه أداة مُلوَّثة.

وهذا النمل يعيش فوق أيدينا، وفي الماء، وعلى الخضراوات، وهو مثابر مثل النمل الحقيقي بل وأكثر مُراوغة منه ويقتل قتلا أكيداً.
----------------------------------------------------
الأبيات أصلاً بالإنجليزية.
(المترجم)..*
----------------------------------------------------
وكان لهذه الصورة تأثيرها المُمَيَّز، فقد جعلت النظرية المُجرَّدة غير المفهومة تتخذُ سمتاً واقعياً مُخيفاً.

ومما لا تخطئه العين رؤية سكرتيري جاد أفندي، وقد امتقع متصوراً آلاف النمل القاتل غير المرئي وهي تزحف فوق جلده، وإذ تذكرت معاملته ((للأسطى)) محمود فقد سُرِرْتُ جداً عندما رأيت أنه أخذ يُدرك الآن أن ثمَّة أشياء قد تكون أهم من تقديم طلب كتابي.

كانت الكوليرا قد تفجَّرت الآن في الأقصر وفي الجمولة الغربية.

وهي قرية تبتعد عن القرنة بسبعة أميال على نفس الضِفَّة.

وكان جاد أفندي هو الذي جاء لي بالأنباء.

وهو موهن خوفاً.

لقد أصبح الموقف الآن جداً خطير، وعقدنا مجلساً من العمدة ومشايخ النجوع الخمسة وضممناهم إلى لجنتنا.

وكنا نجتمع يومياً، ونحُثُّ المشايخ على نشر الحملة في بيوت الناس مباشرةً، وأن يراقبوا كل مكان خشية ظهور ثغرات في دفاعاتنا، وأن يكونوا أكثر حزماً بشأن حالات الإهمال.

وكنا جميعاً وقتها مرعوبين أقصى الرعب، وعندما لا حظت جاد أفندي يلعق أصابعه ليُقَلِّبَ قوائم الأجور التي يجمعها من العُمَّال كُلَّ صباح، ذَكَّرْتُهُ بالنَّمل الذي يمكن ولا شك فوق الورق، ولم أشعر مطلقاً بأي سعادة من ارتعابه.

وأخيراً بدأت إمدادات المُصل تصل، وقد أرسلت من الهند ومن بلاد أخرى، وعندما أخذنا في تطعيم القرويين، اختفى الذعر.

لقد تم إنقاذ القرنة؛ إلا أن التجربة قد بيَّنت لي مرَّة أخرى كيف يكون من السَّهل تبرير اللامبالاة، والبلادة، والإهمال على أن ذلك إذعان للقدر.

وثمَّة صورة أخيرة عن الوباء؛ كنت انتظر تحت مظلة الخيزران، لأعبر بالمعدية إلى الأقصر.

ولَمَّا كان ثمَّة جمهور كبير ينتظر أيضاً هناك، فقد قررتُ أن أستغل الظروف بأن أبدأ نقاشاً عن الصحة والميكروبات.

ومرَّة أخرى قدَّمتُ نملي مزهواً.

واعترض شيخ عجوز وقور أبيض اللحية بأن مصير المرء محتوم ((مكتوب))، ولن تُغَيِّرَ منه أي محاولة من البشر الفانين.

((يا مولانا، المكتوب يكون واضحاً أكمل الوضوح في حالة رجل يُلقي بنفسه من فوق سطح منزل أو من على شفا جُرُفٍ؛ إلا أن الله تعالى يقول: ((وَلَا تُلْقُوا بِأَيدِيكُمْ إِلَىَ التَّهْلُكَةِ))، وابتلاع الجراثيم هو بالضبط مثل الوثوب من على شفا جُرُفٍ)).

وأجاب الشيخ: ((يستطيع الواحد منا أن يرى الجبل أو البيت لأنهما قائمان هناك، أما هذه الميكروبات فلا أحد يراها)).

((إن الميكروب وإن كان لا يُرى بالعين المُجرَّدة، إلا أنه يمكن رؤيته وهو يتحرَّك تحت المِجهر)).

((على أي، أنا لا أومن إلا بما أراه بعيني)).

((ولكن يا مولانا إن معظم شيوخنا ضعيفوا الإبصار ولا يستطيعون قراءة القرآن دون ارتداء نظارات، وهكذا فحسب ما تقوله، فإنهم ينبغي ألا يؤمنوا بما هو مكتوبٌ في القرآن وهم يرتدون النظارات)).

((تهليل من الجمهور حيث كانت هذه ضربة بارعة، آه!، آه!، آه!)).

ولكن الشيخ يقول: ((أنه إذا كان شخص ضعيف البصر لا يستطيع رؤية كتابة القرآن، فإن جاره يستطيع ذلك، وكل واحد يعرف بذلك، بينما الميكروب لم يره أحد)).

وأجبتُ على ذلك: ((إن الطبيب يراه بالمِجهر، وهو ليس إلا نظارة قوية قوة خارقة ولها عدسات قوية، وأن الطبيب هو رجل متعلم محترم نصدقه ونتناول ما يصفه لنا من علاج، فلماذا ينبغي ألا نصدق ما يقوله عما رآه بالفعل تحت هذه العدسات في معمله)).

ورد الشيخ ثانية بشعر جميل، معناه هو عكس ما قلته وقوبل ذلك بتهليل من الجمهور ((آه ! آه ! آه)).

فقلت أن القصيدة لا تطابق الحالة التي نناقشها وإنما هو بسبب مالها من رنين في آذانهم.

((إنه نفس السِّحر الشِّعر الذي جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يكره الشِّعر والشُّعراء)).

ومرَّة أخرى يُهلّل الجُمهور ((آه ! آه ! آه)).

وأخيراً رأيت أن الاحترام اللائق بالرجل العجوز يُملي عليَّ أن أجعل الكلمة الأخيرة له، خاصَّة أنه تأكَّد لي أني قد أنجزت غرضي ببذر بعض معلومات صحية قد تؤتى أكلها بين المستمعين، فقلت أننا حقاً مهما كان ما نعتقده من اكتمال ما نتخذه من الاحتياطيات، فإننا لن نصل أبداً إلى الكمال وسيكون هناك دائماً ثغرة ما قد ينفذ منها القدر.

على أن هذه الحقيقة ينبغي ألا تمنعنا عن فعل كل ما في وسعنا حتى لا نترك ثغرة، وأي إهمال يكون معناه إهلاك مُتَعَمَّدٌ للذّات وليس إذعاناً للقدر.

وعندها وصلت المِعَدِيَّة وانتهى النِّقاش.
* * *



لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49335
العمر : 72

لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي Empty
مُساهمةموضوع: رد: لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي   لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي Emptyالثلاثاء 31 ديسمبر 2019, 10:42 pm

الموسم الثالث  1947 - 1948

إبليس العنيد
حوالي نهاية شهر أغسطس من كُلِّ سَنَةٍ, تُغَذِّي أمطار الحبشة البعيدة النيل في الصعيد, فيمتلئُ بالطمي الغني الخصب, ويرتفع لأعلى مناسيبه وينسابُ عالياً فوق مستوى الحقول.


ويكون محصول الذرة الصيفية على وشك النُّضج في الحُقول, والفلاحون يترقبُون جمعه قبل أن يُسمح بدخول مياه النهر لتُغطي أرضهم.


وفي بداية سبتمبر, بعد بضعة أيَّام من العمل العنيف, تُصبحُ الحُقول جاهزة؛ وتُفتح البوَّابات ويُسمح للمياه بأن تفيض على الحقول.


وتظل المياه محجوزة بالجُسور طيلة شهرين, بينما النهر ينخفض, وفي بداية نوفمبر تُصرف المياه ثانيةً إلى النيل.


تاركة وراءها طبقة خِصْبَةً طازجة من الطمي يُزرَعُ فيها محصول الشتاء من الحبوب أو البقول.


(يُسَمَّى نظام الرَّي هذا ((الحياض)), وهو لا يُستخدم في الدِّلتا, حيث ينفذ نظام الرَّي الدَّائم باستخدام القنوات) وهذه المحاصيل، القمح, والشعير, والعدس, طعام مصر منذ أقدم العصور, ظلت تُبذر وتُحصد طيلة ستة آلاف سنة في نفس ذلك الطين الأسود الذي يتجدَّد دائماً؛ وهي تنبُتُ, وتنمو, وتنضج في اتساق سَلِسٍ مع مواسم النهر, بينما المحاصيل الأخرى كقصب السُّكَّر والقُطن التي وفدت حديثاً للصعيد, لا تتناسبُ مع هذا النّمط العتيق, فيجب حمايتها من الفيضان.


وتبقى حقولها مُحاطة دائماً بالجُسور ويتم ريُّها بالآبار الارتوازية أو بقنوات تُغَذَّى بالقنوات.


وهذا الحقل المُسَوَّرِ يُسَمَّى الحُوش, وكان موقع القرنة الجديدة في أحد هذه الأحواش.


وأثناء موسم 1946, كان ثمَّة شائعات بأن بعض الفلاحين يتآمرون لنقب الجسر الغربي ليتمَّ إغراق القرية وإيقاف المشروع, الذي كان يُهدِّدُ بالقضاء على هوايتهم المُربِحَة بسرقةِ المقابر.


وقد أبلغتُ البوليس وقتها, وقوَّيتُ من الجسر, وعَيَّنْتُ حراسة من اثني عشر رَجُلاً لخفره وكان الفيضان تلك السَّنَةِ عالياً على وجه الخُصوص, فكان أعلى ما عُرِفَ عن الفيضانات, وتهدَّمت فيه قرى كثيرة.


ومن الواضح أن احتياطاتنا أرعبت المُتآمرين إن كان لهم وجود, فلم يحدث شيءٌ مطلقاً.


وقد  يظن أن من غير الحكمة أن يجعل موقع القرية الجديدة منخفضاً عن مستوى الفيضان, ولكن الحُوش كان محميّاً حماية جيدة جداً في ثلاثة جوانب بجُسُور تتمُّ صيانتها بحرص وتمتلكها الحُكُومة: فالجانب الجنوبي هو ضفة لترعة الفرحانة وكان على الجانب الشرقي والشمالي جسر للسكة الحديد.


والجسر الذي على الجانب الغربي كان وحده الجسر الذي تتم صيانته بالملكية الخاصة لكامل بولس بك، المالك الحالي للحُوش، وبواسطة شركة كوم امبو للسكر التي تستأجر الأرض منه.


وصلت يوم 3 سبتمبر 1947 لأبدأ العمل في الموسم الثالث.


وعندما وصلتُ القرية لأبدأ عمل هذا الموسم الجديد، وجدتُ أنه لم يتمَّ تنفيذ أيٍّ من تعليماتي التي أعطيتُها قبل رحيلي.


وبالذات، فإن كل الطوب الذي تَمَّ إنتاجه في الموسم السَّابق، والذي كان قابعاً في مكان ضربه غرب القرية، لم يتمَّ نقلُهُ ليُرَصَّ في الشرق بالقرب من المباني التي سيُستخدمُ فيها.


وكان هناك ما يقرُب من نصف مليون طوبة.


ولم يأتِ رسلان أفندي، مساعدي الجديد، إلى العمل، وكان قبل ذلك ببضعة أسابيع قد أتى لمنزلي في القاهرة مُهدِّداً بالإضراب إن لم أرشحه للترقية إلى الدرجة السادسة.


وفي 8 سبتمبر تلقيتُ برقية من وكيل الوزارة تستدعيني إلى القاهرة لمُقابلته في العاشر من سبتمبر الساعة العاشرة في مكتبه.


ولم أستطع تخمين السَّبب وانزعجتُ بعض الشيء، فالبرقياتُ تأتي دائماً بأنباءٍ سيئةٍ.


وكان قد بدأ في هذا الوقت إطلاقُ المياه في الأحواض المُحيطة بحُوش القرنة.


ولَمَّا كانت مُهِمَّةِ المُحافظة على سلامة الجسر هي حقاً من شأن شركة السُّكَّر، ولَمَّا كان الماءُ لم يرتفع إلا لحوالي أربعين سنتيمتراً، فإنني لم أزد على أن طلبتُ من خفير الشِّركة أن يكون مُتيقظاً في الحراسة كما طلبت من رئيس عُمَّالي أن يضع خفيرين على الجسر.


ولَمَّا كان رئيس العُمَّال، أحمد عبد الرسول، يُريدُ دائماً تعيين أكبر عددٍ ممكن من الرجال في أي مُهِمَّة، فإنه قال في الحال أننا يجب أن نُعَيِّنَ اثني عشر رجلاً كما فعلنا في العام الماضي.


وشرحتُ له أننا في العام الماضي كان لدينا فيضان عالٍ، أمَّا هذه السَّنَة فإنَّ الماءَ ما زال منخفضاً نوعاً، وفوق ذلك فإنه في العام الماضي كان ثمَّة تهديد بعمل تخريبي.


وبالإضافة فإني سأعود سريعاً من القاهرة ويمكننا بعدها أن ننظر في أمر تعيين عدد الخفر الذي يريده.


وبينما كنتُ أقفُ فوق سطح منزلي في ذلك المساء مع عبد الرسول قبل سفري، حدَّقتُ في القرية ولاحظت أن الحُوش كله خالٍ.


وبدلاً من البحر الأخضر المُعتاد من قصب السُّكَّر، لم يكن هناك إلا سهلٌ أسودٌ عارٍ، دون أثر لزراعة.


وبالطبع فإن الأمر كان وحسب هو ما يحدث من تغيير مُعتادٍ للمحصول كل ثالث سنة، ولكن المشهد أضفى عليّ إحساساً بالاكتئاب بل والرَّهبة.


وعندما سألتُ عبد الرسول عن السَّبب في خُلُوِّ الحوش هكذا، قال أن الشركة قد قرَّرت ألا تزرع قصب السُّكَّر لأنه يوفر مخبأ للصوص.


وكانت هذه إجابة فيها شيء من القحة، ذلك أن هذه النظرية بالضبط قد استُخْدِمَتْ كمُبرَّرٍ ضد نقل القرية في عريضة قدَّمها بعض المشايخ.


وعندما آتى عبد الرسول بجمهور المُستخدمين المُعتاد لتوديعي في المحطة كرَّرتُ له تعليماتي بتعيين حراسة من رَجًلَينِ على الجسور.


وصلتُ القاهرة في السابعة من صباح اليوم التالي واتخذتُ طريقي إلى منزلي هناك.


وساءني جداً أن أجِدَ خادمتي فاطمة لم تكن هناك، وأنَّ كُلَّ قِطَطِي قد تُرِكَتْ جائعة.


وزاد كَدَرِي هذا من ذلك الإحساس الخاص بالاكتئاب الذي كان يتنامى من داخلي منذ جاءتني البرقية.


وأطعمتُ القطط وأخذتُ في إفراغ حقيبتي.


وبينما كنتُ أعلّقُ ملابسي في الصوان، إذ بالقط أونا وكان عادةً قط شبه مُنعزل وشديد التَّحفُظ، وإذ به يأتي ليجلس إلى جواري وقد أبقى باب الصوان مفتوحاً بمخالبه الأمامية، وكان في ذلك عرض لتعاطفه تعاطفاً غير مُعتادٍ للغاية.


وكان هناك مَنْ أحضر رسالة، قبل أن أرحل مُبَاشَرَةً، وهي من صديقي رُستُم رئيس قسم الهندسة والحفائر، والذي كان قد عاد من يافا لفترة قصيرة.


وقد اقترح أن أمُرَّ عليه لنذهب معاً إلى وكيل الوزارة.


ولم يكن في ذلك ما يُهَدِّئُ من رُوْعِي، ذلك أن رُستُم بالتأكيد إنما يعرض أن يُساندني فيما يبدو نزاعاً وشيكاً.


وأخذتُ أتذكّر كل ما ارتكبته مُؤخّراً من خطايا وشعرتُ بقلق بالغ عندما تذكرتُ مقالاً قد نشرتهُ في التَّو في إحدى المجلات وصفتُ فيه بشقاوة بناء برلمان خيالي تماماً من الأسرة الثامنة عشرة يُفترضُ أنه قد بُنِيَ لتخليص البلاد من الفساد الذي ورد ذكره في بداية ليدن، التي تتألف من نصائح الحكيم المصري إييور؛ وكان الموقف في عصره يحمل عدداً من أوجه الشبه الغريبة بالموقف في مصر 1947.


ولم أجد وقتاً لاصطحاب عثمان، والحقيقة أني كنت في أقصى عجلة لمعرفة ما أنا بصدده حتى أني ذهبت إلى الوزارة مباشرة، وفي نِيَّتِي أن أُتلقن له من هناك.


ودخلتُ الوزارة، وأنا أحِسُّ بقلق بالغ، وارتقيتُ السُّلَّمَ وأنا عازفٌ تماماً عن ذلك، ودخلتُ الغرفة الأمامية لمكتب وكيل الوزارة.


وقال كاتبٌ من خلف أحَدِ المكاتب: (صباح الخير يا سيد فتحي!)) وانضمَّ كل الموظفين إليه قائلين: ((مبروك، مبروك!)) كان من الواضح أن الأمر لا علاقة له بمقالي؛ ولعلي سأنال نُوطاً.


والأمرُ في الظاهر، أن مشروعي في القرنة قد جذب انتباه المَلِكِ نفسه، فَاسْتُدْعِيتُ للقاهرة لتقديم تقرير كامل عن تقدُّمِنَا ليقرأه الملك.


وهنَّأني وكيلُ الوزارة أيضاً عندما دخلتُ لرؤيته، وطلب مني أن اكتب التقرير ذاكراً كل المُعَوِّقَات والعقبات التي لاقيناها.


وأن أرسله إلى رئيس الديوان الملكي في اليوم التالي.


ومن أغرب ما يكون، أني رغم ارتياحي الشديد لعدم وقوعي في مشكلة، إلا أنني أحْسَسْتُ بشيءٍ من الضيق من هذا العَوْنِ غير المُرتقب؛ فقد كنت استمتع بكفاحي بنفسي، ولم أكن أميل لفكرة أن يتمَّ تمهيد الطريق أمامي تمهيداً سحرياً.


كان الأمرُ وكأني ولدٌ صغيرٌ يُعاركُ ولداً آخرَ، وفجأة يأتي أحَدُ الرَّاشدين ليُساعدني.


وهذا لا عدل فيه، وهو يُلْغِي سبب نضالي؛ بل إن في ذلك ما يُشبه الإحساس بالغش في أحد الامتحانات.


وكتبتُ التقرير بمساعدة رُستُم، وذكرت فيه القليل من أوجه الشكوى وعرضته على وكيل الوزارة الذي أعجب به، ثم ذهبتُ للمنزل.

* * *



لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49335
العمر : 72

لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي Empty
مُساهمةموضوع: رد: لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي   لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي Emptyالثلاثاء 31 ديسمبر 2019, 10:43 pm

فَألٌ سَيْئٌ

حَلُمْتُ تلك الليلة حُلُمَاً فظيعاً، كان بعض الصبيان -أولاد قريب لي- يأخذون دُشّاً، ولكنهم بكامل ملابسهم وعلى ظهورهم جربندية، وانساب الماءُ من فوقهم كلهم، ولكنه لم يبلل إلا سراويلهم التي التصقت بسيقانهم.

ثم أتى حصان، بدا كالفرس التي يمتلكها الشيخ أحمد عبد الرسول، ووثب إلى ظهره رجُلٌ شريرٌ، لم استطع رؤية وجهه، وانطلق به الحصان.

وقذف به على الأرض، ثم عدا الحصان بعيداً، وجاء في أثره جياد سُودٌ يعدون من ورائه، في هياج وخوف، وأتت الخيلُ الرَّاكضة بالناس إلى الخارج، وكان ثمَّة ثورة في الجو، وجرى الناسُ ثم أخذوا يتساقطون أمواتاً، على أنه ما من أحَدٍ كان يقتلهم، وتساقطوا بملابسهم، وتكوَّمت أجسادُهم الواحد منهم فوق الآخر، وهكذا حوَّلتُ رأسي بعيداً لأرى.

وأتى من خلف الجسر رجُلٌ يرتدي زي الفرقة الأجنبية، وكان معه سيفٌ، ضرب به فَشَجَّ صديقي رُستُم هاوياً للأرض، ثم وجَّهَ ضربة إليَّ فَشَقَّ السَّيْفُ كَتِفِي  وتساءَلتُ في عَجَبٍ ((هل قُتِلْتُ؟)) ذلك أنِّي لم أحِسُّ ألماً، واستيقظتُ، وأنا في غاية الانزعاج، ولم أنَمْ بعدها في تلك الليلة.

أخذتُ تقريري إلى حسن بك يوسف رئيس الديوان الملكي.

وكان قد سبق له أن زار القرنة، وعرف شيئاً من متاعبي؛ وعندما رآني أكَّدَ لي أن اهتمام المَلِكِ يعني أنِّي سأجدُ الأمور في المستقبل أسهل كثيراً.

ومرَّةً أخرى واتتني الآمال مُنتعشة؛ ورأيتُ أشجار الفاكهة وقد تَمَّ غرسُها، ومدرسة الصنائع تعمل، والقرية كلها تصخُبُ بحياةٍ سعيدةٍ هادفةٍ مُجِدَّةٍ.

ورأيتُ فوق ذلك أن القرية وقد اكتملت أصبحت تقومُ كمثالٍ للإسكان الرَّخيص والجَيِّدِ لكل مصر.

وتناولتُ غذائي يومها في جروبي حيث كانت فاطمة ما زالت مُتغيِّبة، وأثناء الغداء رويتُ حُلُمِي لرمسيس واصف والدكتور شارل باشاتلي.

وفسَّرنا الحُلُم هو وإحساسي بالمَحظور على أنهما ربما يُنذران بِرَدِّ فعل مُزعِجٍ في مصر بسبب قطع المُحادثات (التي كان النقراشي باشا يُجريها)) في الأمم المتحدة*.

فلعله سيحدث نوعٌ من القلاقل أو حتى ثورة، فيما لو قام أي شخص غير مسئُول بتصرُّفٍ أحمق يُشعلُها كما فعل الحِصَانُ الرَّاكِضُ في حُلُمِي إذ جعل كل الآخرين يركضون.
----------------------------------------------------
* إشارة إلى الشَّكوى التي تقدَّمتْ بها حُكُومَة النقراشي للأمم المُتحدة لطلب جلاء جُنُودِ انجلترا عن مِصْرَ.
(المترجم).
----------------------------------------------------



لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49335
العمر : 72

لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي Empty
مُساهمةموضوع: رد: لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي   لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي Emptyالثلاثاء 31 ديسمبر 2019, 10:44 pm

المُسْتَنْقَعِ العظيم

في طريقي إلى البيت لاحظت في ميدان الإسماعيلية* مُلصقاً هائلاً يُعلِنُ عن أحد الأفلام وهو ((المُستنقع العظيم)).

وأصابني ذلك بإحساسٍ سيئٍ.

فقد بدا ذلك كفألٍ رديءٍ، وحوَّلت وجهي بعيداً عن الإعلان وأنا أمُرُّ به.

عندما وصلتُ إلى منزلي وجدتُ رسالة من رُستُم، يطلبُ فيها أن أمُّرَّ عليه حيث انه قد وصلته رسالة تليفونية من كبير مُفتشي الأقصر تقول أن القرية كلها قد فاضت عليها المياه وأغرقتها.

وأحسست بدوار، وتمايل رأسي، واندفعتُ إلى رُستُم لأسمع المزيد.

ولم يستطع أن يُضيفَ لِمَا في رسالته إلا القليل؛ وهكذا تلّفنا للمفتش في الأقصر.

ولستُ أحِبُّ لأي واحِدٍ، ولا حتى ألَدَّ أعدائِي، أن يُحِسَّ عذاب تلك السَّاعة التي انتظرتُ فيها وصول المُكالمة التليفونية.

وأخيراً سمعنا صوته وعرفنا أن القرية في الحقيقة قد أٌغْرِقَتْ، وأن الجِسْرَ قد كُسِرَ، وأن الموقع كُلَّهُ مَغْمُورٌ بالمياه.

وسألته ((ما عُمْقُ المياه؟)).

((لم أقسه)).

((ولكن ما هو العمق بالتقريب؟...

هل تصل المياه للنوافذ؟...

لدعامة الباب؟...

فوق الأسطح؟...

أريد أن أعرف؟)).

على أنه فيما يبدو لم يكن يعرف؛ وهكذا قلتُ له أننا سوف نصل بقطار الليل ووضعتُ سماعة التليفون.

وسافرنا في تلك الليلة، ومَرَّةً أخرى رويتُ الحُلُمَ في القطار لرُستُم.

وفسَّرهُ بقوله أن الصِّبيانَ هي بيوتي، وقد بللتها المياه في أسفلها، والرَّجُلُ ذو السَّيْفِ هو الرَّجُلُ الذي كَسَرَ الجِسْرَ، وأن الجياد السُّودَ تُمَثِّلُ مياه الفيضان المُتدفقة.

وبالوصول إلى القرية في الصباح التالي، وجدت أن المياه ترتفع فحسب لحوالي نصف المتر وأن الجانب الشرقي لم تصل إليه مياه الفيضان قط.

إلا أن قوالب الطوب التي أعددناها في الموسم الماضي قد ذابت كلها؛ ولو كان مساعدي قد نقلها كما طلبت منه لكانت الآن سليمة.

على أن رسلان في حالة الطوارئ هذه لم يستطع أن ينسى أمر ترقيته، ولم يأت مُطلقاً لتقديم العَوْن.

وهرعتُ إلى المكان الذي نُقِبَ فيه الجِسْرُ غرب القرية بما يقرُبُ من ميل وربع الميل، ووجدت ثغرة عميقة واسعة محفورة في الجسر عبر ما يقرُبُ من ثمانية أمتار.

وكان هناك حوالي مائة عامل، يُشرفُ عليهم مهندسوا الرَّي وضابطان من الشرطة، ولكني للأسف لم أجد أي واحد من أهل القرنة بين هؤلاء العُمَّال الذين جُمِعُوا بالقوة من القرى المُجاورة لمُعالجة الأزمة.

وقد رفض كل أهل القرنة أن يعملوا في الجسر، وحتى أولئك الذين تَمَّ جمعُهم منهم في الليلة السابقة وأجبروا على العمل في الجسر، تسلّلُوا من خلال المياه تحت ستار الظلام، بدلاً من أن يُساعدوا في إنقاذ قريتهم الجديدة.

وقد احتالوا أثناء عملهم حتى يُوَسِّعُوا الثَّغرة بأقدامهم بينما هم يتظاهرون بسدِّها بأيديهم.

على أنهم بذلك كانوا يُلحِقُونَ بأنفسهم ضرراً مُباشراً، فقد كانوا جميعاً يكسبون مالاً وفيراً كعُمَّالٍ في القرية، كما أن البيوت الجديدة كانت أفضل، حتى من الوجهة المالية، من البيوت القديمة، التي كانت في أغلبها مبنية على أرض حكومية، و بذا فإنها في الواقع لا تساوي شيئاً.

وثمَّة مَثَلٌ يقول: ((لو عُرِفَ السَّبَبُ لَبَطَلَ العَجَبُ))، وهنا كان ثمَّة أكثر من سَبَبٍ لذلك.

فأولاً، فإن النظام الأبوي نظام قويٌ جداً.

وكل فرد فيه يُطيع رؤوس العائلات، وهؤلاء في القرنة هم لصوص المقابر.

والناس يهابونهم ويحترمونهم معاً، وهم يستغلون سلطانهم في المحافظة على مهنتهم، ولم يكن لديهم أيُّ نِيَّةٍ للتخلّي عن بيوتهم المُزرية لأنها عندهم لطيفة بما تجلبه لهم من ربح وفير بموقعها في الجبَّانة والكنز تحت أرضياتها ينتظر مَنْ ينقبُ عنه، وهم لن يتخلوا عن هذا لينتقلوا إلى قرية جديدة صحيَّة جميلة ولكنها بعيدة عن المقابر.

وثانياً، فإن أهل القرنة كلهم بينهم صلات قرابة وثيقة، ولن يتخلّى أي واحد منهم عن تأييد أي من رؤوس العائلات في أي مغامرة.

وثالثاً، فقد كانوا مدفوعين بنوع من الإحساس بالعار، العار من أن يُعَدُّوا من الجُبَنَاءِ إذا لم يشاركوا في عملية التخريب.

وقد اختاروا توقيتهم بمُنتهى الخُبث.

فأولاً، قصبُ السُّكَّر وقتها قد تَمَّ اقتلاعه، وهذا لا يحدث إلا مَرَّةً كل ثلاث سنوات.

وثانياً، كنت وقتها غائباً عن القرية.

وثالثاً، كان الماء وقتها مُنخفضاً جداً، بحيث لا يخشى أحد أو يشك أن هناك أي خطر على الإطلاق.

كان العمل كله ما زال مُرَكَّزاً على ثغرة الجسر، ولكني وجدت أن الفارق بين مُستوى المياه داخل وخارج الحوش هو فحسب حوالي عشرة سنتيمترات.

ولن يرتفع الماء لأكثر من ذلك، لأن المُستوى في الخارج يمكن أن تتحكَّم فيه سلطات الرَّي؛ وهكذا حوَّلتُ انتباهي إلى إنقاذ المباني في القرية.

ولَمَّا كُنَّا قد فقدنا كل قوالب الطوب بالفعل (تلك القوالب التي كان ينبغي أن يتمَّ نقلها) والماء يرتطم من حول البيوت، فقد أمرتُ ببناء جسر صغير قريب من حول المباني لا يرتفع إلا لخمسة عشر سنتيمتراً، وبدأتُ أضُخُّ المياه من هذه المنطقة لِتَجِفَّ.

وفحصت الثغرة ثانية، ووجدت قطعتين كبيرتين، بينهما ما يقرب من المترين، وهما على الجانب ((الجاف)) من  الجسر.

ومن الواضح أن هناك صفاً من قطوع مماثلة في كل عرض الثغرة.

وإذا كان من الحقيقي أن خبير الري عندما سألته الشرطة قال في أول الأمر أن النقب ربما حدث طبيعياً.

إلا أن هذا كان استنتاجاً مُتَعَجِّلَاً، بُنِيَّ على المنظر المُرعب للأمواج في تلك الليلة الأولى، ولم يُبْنَ مُطلقاً على أي حقائق علمية.
----------------------------------------------------
*ميدان التحرير حالياً.
(المترجم).
----------------------------------------------------

و كانت الرياح الآتية من فوق الجبل قد أثارت أمواجاً جداً قوية بدت في الليل سوداء مُنذرة وبَلّلَتْ سراويل المهندسين، الذي نسُوا في التَّو كل ما يعرفونه من الهيدروليكا، ونسُوا أن الجسر سُمْكَهُ في القاع ستة أمتار بأكملها، وأن الماء لم يكن يرتفع إلا لخمسين سنتيمتراً، وأن معدل الرَّشح سيصل تماماً إلى ما تحت مستوى الأرض.

وباختصار فقد نسُوا أن من  المستحيل تماماً فيزيائياً أن ينكسر الجسر نفسه، ولم يروا إلا بحراً من الأمواج السوداء بدت وكأنها يمكن أن تهدم أي جسر.

وما إن تَمَّ بناء جسرنا الأول، حتى رَكَّبْنَا مضختنا الجديدة لضخّ الماء من داخل هذا الحاجز إلى الخارج، ثم بدأنا جسرنا ثانياً يحيط بمنطقة أكبر جاعلين فيها أماكن هامة مثل قمائن الطوب.

وتَمَّ تجفيف المنطقة المبنية في ثلاثة أيام.

ثم حوَّلنا المضخَّة لتصريف المياه من المنطقة الثانية، واقترضنا أيضاً مضخة ثانية من تفتيش الري.

وقد أبدى ((الأسطى)) محمود في هذا العمل نشاطاً وعزماً هائلين.

فقد جعل المضخَّة الجديدة من مسئوليته الخاصة وأخذ يعمل عليها بلا كلل ليل نهار لثلاثة أيام، حيثُما يتم تركيبها، وهو واقف في الماء، لينظفها إذا انسدت، وساهم بذلك إسهاماً كبيراً جداً في نجاح مجهوداتنا.

وكان هناك مُعين آخر ساعدنا بما لا يمكن تقديره، وهو إبراهيم حسن.

وهو قوي بما لا يصدق، فكان في استطاعته أن يلف ذراعيه حول اسطوانة  زيت تسع ثمانين جالوناً، هي مما لا يكاد ثلاثة رجال أن يتمكّنوا من تحريكها، ويلتقطها هو ليرفعها وكأنها جوال من الريش.

وبدا وكأن له قوة وقدرة تحمل محرك المضخة نفسه.

وكان يظل موجوداً هناك طيلة النهار والليل، وهو متأهب لأن يرفعها ويسير بها إلى حيثما أردنا.

ولولا هذان الرجلان، إبراهيم حسن و ((الأسطى)) محمود، لما أمكننا تطهير الموقع ولا في ضعف هذا الزمن.

وفي خلال عشرة أيام أمكن لشاحناتنا أن تُساق فوق الأرض من حول المباني التي قامت عليها واستطعنا أن نبدأ في إحضار المواد ثانية لنواصل عملياتنا في البناء.

وأثناء القيام بهذا كله، حَطَّ علينا وكيل النيابة لعمل تحقيق بشأن الفيضان.

وأخذ هو ومساعده يلفون ليسألوا كل قروي بدوره: ((هل نقبت الجسر؟)) ويجيب كل قروي بالدور ((لا))، وبعد أن ملأ وكيل النيابة ثلاثة أفراخ من أفرخ  الورق ذات الحجم القانوني، بهذه الإجابات، عاد إلى بيته وهو راض بأن القضية قد تم تحقيقها.

وكما يتفق، فقد استطعتُ أنا بنفسي أن أحصُلَ من أسئلته على أكثر مما حصل عليه هو، ذلك أن أحمد عبد الرسول أدلى بأسماء مختلفة تماماً عن الأسماء التي كان قد أعطاها لي على أنها أسماء الخفر الذين عيَّنَهُمْ، وبذا فقد بَيَّنَ لي أنه لم يُعَيِّنْ أحَداً مُطلقاً.

وعلى كل، فقد فضَّلتُ عدم الإبلاغ عنه.

وأن أتعامل معه بنفسي.

وإذن، فقد كان تقريري الأول إلى القصر يتَّصِفُ على الأقل بأنه مُثيٌر للاهتمام ونتج عنه استدعائي في التَّو للقاهرة لأروي الحكاية شخصياً.

واستاء رئيس الديوان الملكي استياءً شديداً من المُجرمين وقال أنه ستوضع الترتيبات لإرسال فصيلة من حرس الحُدُودِ السودانيين، وهي قواتٌ قاسية جداً تُرْهِبُ كثيراً بأسواطها الكبيرة؛ وجَزِعْتُ تماماً لهذا الاقتراح، وتَوَسَّلتُ إليه ألا يفعل شيئاً من هذا القبيل، لأنه لن يُحَلُّ اللغزُ بذلك، ومن المؤكد أن سَيُثيرُ الكثير من الكراهية، بحيث لن يمكن بعدها أبداً استمالة الفلاحين للقرية الجديدة.

فقال: ((دعني على الأقل أرسل لك بعض الجنود لحماية المشروع، دعني أعطيك سلاحاً لحمايتك))، ((السلاح يجذب فحسب مزيداً من السلاح، وإذا أراد أي واحد أن يطلق النار عليّ، فما عليه إلا أن يختبئ خلف أحد الأبواب ويترقب وقتاً لا أراه فيه، وما من قدر من البنادق تكون فيه أي فائدة لي)).

وأخيراً أمكنني إقناعه بألا يُزعجني بفرقة من العساكر تجري في أرجاء قريتي كلها، وتركني لأرحل، وإن كان واضحاً أنه يُوجِسُ خوفاً بشأن مصيري.

وعلى الأقل فقد أعاد فتح التحقيق الرسمي، وسرعان ما عاود وكيل النيابة الظهور بعدها ومعه هذه المرة المدير* والعديد من علية القوم.

وطافوا بالقرنة وهم يسألون ((هل نقبت الجسر؟))، ومرة أخرى يجيب القرويين بما هو منطقي تماماً ((لا))، وبعد أن ملأ المُحَقِّقُونَ عشرة أفرخ من الورق انصرفوا، وكان هذا آخر ما سمعناه عنهم.
----------------------------------------------------
*منصب المدير وقتها يُرادف المحافظ حالياً.          
(المُتَرْجِمْ).
----------------------------------------------------



لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 49335
العمر : 72

لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي Empty
مُساهمةموضوع: رد: لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي   لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي Emptyالثلاثاء 31 ديسمبر 2019, 10:45 pm

الديكوفيل

كانت شاحناتي تتخرَّب في اطراد من نقل التربة، فهذه في الحقيقة مهمة عربات السكة الحديد من نوع ديكوفيل، وكان لدى مصلحة الآثار الكثير من مُعدَّات الديكوفيل، على أنه يكاد يكون من المُستحيل إخراجها من قبضة شتى الأثريين الذين خُصِّصَتْ لهم، ذلك أن الأثريين كانوا غيورين على مُعدَّاتهم مثل غيرتهم على القبور التي يحفرونها، ولا يتخلّون عنها حتى ولو كانت تقبعُ بلا حِرَاكٍ في المخازن، كما كان هو الحال لمعظم هذه المُعدَّات، وعندما قدَّمْتُ طلباً لأحمد في أبيدوس، حَوَّلَنِي إلى علي في أسوان، وعندما ذهبت إلى علي في أسوان قال لي انه قد أرسل المُعدَّات إلى أبيدوس.

واتفق إن كان يوجد بالقرب من القرنة كَمٌ كبيرٌ من المواد -آلاف الأمتار من القضبان وعشرات العربات الصغيرة- التي تخلّفت من حفريات متحف لمتروبوليتان عند الدِّير البحري، وهي حفريات توقّفت منذ زمن طويل.          

وكنت مُتَحَرِّقاً للاستيلاء عليها، ولكني لم استطع أن أجِدَ أحَداً على صلة بالمتحف لأطلبها منه.          

وذهبتُ إلى أناسٍ في الأقصر يعملون بالمعهد الشرقي بجامعة شيكاغو، فقالوا أنهم لا شأن لهم بحفريات متحف المتربوليتان ولكنهم نصحوني بمحاولة الاتصال بمدير البنك الأهلي في الأقصر، الذي كان يعمل ممثلاً للمتحف وقال لي المدير أن مسئوليته تتوقّف عند دفع أجر الخفر الذين يحرسون المُعدَّات.          

على أنه أعطاني اسم رئيس القسم المصري بالمتحف، الدكتور لانسنج، وكنت قد كتبت له من قبل ولم أتلق رَدّاً، ذلك أن الرجل التَّعِسَ كان مريضاً مرضاً خطيراً.          

وعندما أبدى الملك اهتماماً بالمشروع، كتبتُ إلى القصر عن المُشكلة التي أعانيها للحصول على ديكوفيل.          

وفي الحال عُيِّنَتْ لجنة برئاسة وزير المعارف.          

وكان من بين أعضاء اللجنة مسيو شفرييه، مدير حفريات الكرنك، ووعدني ب 800 متر من القضبان واثنتي عشرة عربة صغيرة، الأمر الذي جعلني أشكره بكل الامتنان.          

وتَمَّ التوقيع بما ينبغي على تفصيلات الاجتماع، وأغلِقَ الملف وخُتِمَ بختم ((تم الاستيفاء)) ثم وضع في أحد الجُحُور.          

وعندما عُدْتُّ إلى القرنة طلبتُ المُعدَّات من مسيو شفرييه، ولكنه لذهولي رفض إعطاءها لي، قائلاً أنه قد توسَّع للتَّو في عمله بشأن تهدُّم البوابة الثالثة لمعبد الكرنك.

خاب أملي خيبة شديدة.          

وكانت شاحناتي تتحوَّل من سَيْءٍ إلى أسْوَأ، ولم يكن يبدو أي أمل في إراحتها.          

وفكَّرتُ فيما بيني وبين نفسي أنني قد سألتُ كُلَّ فَرْدٍ، حتى الملك، فلِمَنْ أتحوَّل الآن؟          

ليس فوق المَلِكِ إلا ملك الملوك، الله؛ وهكذا صلّيْتُ لله وسألته أن يعطيني ديكوفيلاً.

وفي خلال أسبوع زارني مسيو بروبير، مدير حفريات المعهد الفرنسي في دير المدينة، وقال أنه قد سمع بحاجتي إلى ديكوفيل.          

وكان هو قد استنفذ كل موارده المالية، فكان عليه أن يُوقف الحفريات قبل نهاية الموسم!

وكان على استعداد لأن يُعطيني كل ما عنده من مُعدَّات الديكوفيل شريطة أن استخدم رجاله، بحيث لا يضيع عليهم أجرهم عن بقية الموسم.          

وكنت مُستعداً تماماً لأخذ رجاله هؤلاء، بل لعلي كنت سأقترح ذلك أنا نفسي، لأن مُعدَّاتُه ستكون آمنة بأكثر وهي في أيدي الرِّجال الذين تعوَّدُوا عليها.

كنتُ في غاية الحماس لحصولي أخيراً على ديكوفيل، بل وأكثر من ذلك، تملّكني إحساسٌ بالتقوى لأن دعواتي قد اسْتُجِيبَتْ  بهذه السُّرعة والوضوح.          

وفي الحال أخذتُ أصلّي في ورع للهِ تعالى، شاكراً إيَّاهُ على مِنَّتِهِ، التي اعتبرتُها علامة رضا عن عملي.

وقد قيل في القرآن الكريم: ((لئن شكرتم لأزيدنكم)).          

وفي بداية الموسم التالي زارني مستر هوسر ومستر ولكنسون وكلاهما يعملان في متحف المتروبوليتان.          

وكانا قد وصلا من إيران لتصفية كل مُمتلكات متحفهم التي في القرنة، ولَمَّا كانا قد عَلِمَا باحتياجاتي للدِّيكوفيل، فقد رغبا في بيع ما عندهم منه إليَّ -3000 متر من القضبان، وثلاثون عربة صغيرة، وإحدى عشرة عربة مُسَطَّحة- بثمن اسمي هو مائة جنيه.          

وكان لديهما عرضٌ أعلى لشرائه قدَّمته شركة تجارية في المدينة ولكنهما يُفَضِّلانِ إعطاءه لمُنظمة علمية مثلنا، واشترطا فحسب أن يتمَّ دفع النقود لهما خلال شهر واحد؛ فقد كانا متعوَّدين تماماً على التعطيلات الإدارية.          

ووعدتهم بذلك بسهولة، وقد قرَّرتُ سِرّاً أن ادفع لهم من جيبي الخاص، وإذا لم تدفع الإدارة، فسوف أقيم حفلة عند انتهاء عملي أدعو لها كل المعنيين من رؤساء الأقسام، وأغرق فيها القضبان والعربات في النهر.          

ولحُسْنِ الحظ دَفَعَتْ الإدارة بالفعل؛ وهكذا لم ينته الأمر بالمُعدَّات في النهر.
* * *



لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
لحن الترديد (فوجه) المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» مقدمة المهندس حسن فتحي

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: الـثـقــــافـــــــــــة والإعـــــــــــلام :: عمــــــارة الفقـــــــراء-
انتقل الى: