ساحة السوق
يوم السوق في القرية هو يوم عطلة بقدر ما هو يوم عمل.
وهو يوم النساء بخاصة، اليوم الوحيد في الأسبوع الذي يتمكنَّ فيه من مُغادرة أسْرِ البيت للتَّمَتُّعِ بحرية السَّيْرِ، وتضييع الوقت، والقيل والقال كما يشأن.
وتأخذ المرأة إلى السوق ما يكون عليها أن تبيعه -ربما دجاجة، أو سلّة بيض، أو زبد، أو جبن-، وهناك تنسى تماماً رتابة حياتها اليومية وقيودها؛ وهي تُحَوِّلُ بضاعتها إلى نقود ثم تُنفق باقي يومها الطويل اللذيذ ذي الضّجيج والغبار، وهي تتخيَّر من السلع المَبيعة، وتتحسَّس الأقمشة وبواقي المعروضات، وتُقَدِّرُ نوعية البهار، والحُبوب، والبُقول والخضروات قبل أن تشتري بقالتها للأسبوع.
وهي فوق كل شيء تحيا في المجتمع وتُحِسُّ أنها جزء من العالم.
وهاهنا فإن المُحبطات القديمة لمجتمعها تتراخى بحكم التقاليد القديمة، ويُباحُ لها أن تكون عضواً من الجُمهور بدلاً من أن تكون عضواً من الأسرة.
أمَّا رجالها فلهم سلوكٌ مختلفٌ يوم السوق.
فهم لا شأن لهم بالمُساومات المُبتذلة على الخضروات المُلقاة حول مواقف البيع بالسوق.
وإنَّمَا هم يتمتعون بميزة التصرُّف في بيع حيوانات كبيرة مُهِمَّةٍ كالبقر، والحمير، والجمال، فيجلسون طول النهار في المقهى، ويُساومون في جديَّة، ويقدم العرض، والعرض المُضاد ببطء متعمداً كما في حركات لعبة الشطرنج، بينما يمرُّ اليوم في حديث مُتحضِّر تقطعه فترات من سكون له مغزاه.
وكما أن غريزة الجماع تتهذَّب في الإنسان وتُخفف لتصبح استثارة دائمة رتيبة بدلاً من الانفجارات الجنسيَّة الدَّوريَّة التي تحدث للحيوانات، فإنه يماثل ذلك أن الاحتياجات التجارية للمدينة يتم أداؤها في تعامل تجاري ثابت بلا لون ولا إيقاع، بينما الاتجار في القرية له إيقاع وموسم مثل كل سائر حياة الفلاح.
وهذه التفجيرات المتقطعة من التعامل التجاري، هي رغم كل متاعبها، لها عائدها الهائل في أنها تجعل الاتجار نشاطاً اجتماعياً احتفالياً، يكاد يكون طقساً من الطقوس، هو شخصي ومثير بأكبر مما أصبحت عليه آلية التجارة المُجهّلة الهادئة في المدينة.
وفي السُّوق يتم إجراء كل صفقات الأسبوع في هذا اليوم الواحد؟
أنه قلب اقتصاد القرية، الذي ينبض مرة في الأسبوع، وهذا النبض الأسبوعي يبين بوضوح الحالة الصحية للاقتصاد القروي.
وتتوافد للسوق كل منتجات المنطقة: كل المحاصيل، كل البهائم، وكل المنتجات المحلية.
وعدد العملاء في القرية لا يكفي لإقامة متاجر كثيرة فيها؛ وأقصى ما يمكن هو أنه قد يكون ثمة متجر واحد يبيع البن، والسكر، والأرز، والزيت، والثقاب -وكلها احتياجات عليها طلب يومي- ولكن ما من تاجر عاقل يحتفظ بسلع أخرى، لأنه لن يبيعها أبداً وسرعان ما يصيبه الإفلاس.
والقروي لا يستطيع الحصول على الحبوب والخضر إلا في يوم السوق، وذلك أن كل بوصة مربعة من الأرض في الريف تخصص للمحاصيل المُجزية، فلا مكان لحدائق منزلية للخضر، والخضروات إنما تأتي من بساتين الخضر قرب المدينة.
وفي يوم السوق وحده يستطيع الفلاح شراء حيوانات جديدة وتستطيع الفلاحة شراء مشابكها وإبرها.
وفي السوق يحصل الفلاح وزوجته على القماش والملابس والأحذية وأدوات التجميل؛ والمفروشات مثل السجاد والأبسطة والبياضات؛ والأواني والحلل ومواقد الغاز؛ والفئوس والمجاريف والسلال.
وهناك في السوق يمكنك أن ترى في لمحة -أو ما يكاد يكون لمحة- مدى غنى القرية، ليس هذا فحسب، بل ويمكنك أيضاً أن تتفحص ذوق القرويين في الأمتعة المنزلية.
والتجول خلال مواقف البيع في السوق يعطي الدليل على ما أصاب الفلاح من تَغَيُّرٍ في الذوق.
فالسلع الرائجة لم تعد بعد أجمل السلع.
وكم من منسوجات محلية قد اختفت أمام المنافسة الساحقة لأقمشة المصانع المطبوعة المُبتذلة، وكم من مشغولات تراثية وقورة طردتها من السوق البضائع البلاستيكية المبهرجة
إن المصنوعات المحلية لتتراجع ببساطتها أمام سلع المدينة المُزخرفة المُبهرجة التي تُصنع بالجملة؛ وكلما وجدت أداة ما جميلة مصنوعة في القرية، سيُقال لك أن زمنها قد ولّى ولم تعد بعد مما يُصنع، فأي قدرة دفاعية يمكن أن تكون لثقافة الفلاح الهشَّة إزاء الهُجُوم الصاخب للصناعة الغربية؟
ومع كل ما يجلبه يوم السوق من إثارة وحيوية كل أسبوع في القرية فإن ساحة السوق نفسها في معظم القرى هي مكان تجاري بما هو مبتذل، وساحات السوق في مصر حِكْرٌ تمتلكه شركات خاصة، ولا يمكن الحصول على رخصة للسوق إلا على ممتلكات هذه الشركة.
وعادةً فإن قطعة أرض مربعة جرداء تسوَّر بسلك شائك، وتزود ببوابة، وجابٍ للضرائب، ولا يكاد يُقام شيءٌ لراحة الناس الذين يدخلون السوق محتشدين متدافعين ببضائعهم وحيواناتهم.
ونادراً ما يُظلِّل الموقع من الشمس، ولا يكون فيه الكثير من المباني الدائمة أو مصادر المياه.
وقد خططت لساحة سُوق القرنة أنها ينبغي أن تكون ذات خلفية توفر أكثر الوسائل إراحة للسوق الأسبوعي.
فالحيوانات تأوي إلى مذاود دائمة، يُقام كل منها بالارتفاع المناسب للجمل، أو العنزة، أو الحمار، وكلها مُظلّلة بأشجار عديدة توزَّع في خط منظم.
وأصحاب مواقف البيع ينبغي أن يوفر لهم صف من أقبية ظليلة ينشرون سلعهم من تحتها، ويكون هناك مقهى ليجلس الرجال فيه.
وساحة السوق كما قلت، تحدد موقعها في الركن الجنوبي الشرقي من القرية، بما يناسب محطة السكة الحديد.
وحتى يدخل المرء إليها من جانب السكة الحديد فإنه يمر أسفل نصب من بوابة ذات عقدين، حيث يمكنه أن يتطلع مباشرة إلى الطريق الواسع جداً المؤدي للبوابة الأخرى التي إلى جانب القرية، والتي لها عقد واحد وعلى يسارها برج حمام كبير.
وفي يوم السوق يكون هذا الطريق محط تُجَّارُ الحُبُوب، الذين ينشرون أكوام القمح الذهبي بطول الطريق أسفل مظلّات مُخطّطة.
وإلى اليمين مباشرة سوف ترى المقهى مسقوفاً بست قباب، وهناك صف من أربعة عشر قبواً عميقاً يمتد بطول الجدار الشمالي الشرقي إلى البوابة الأخرى، حيث توجد مواقف البيع فيه.
وفي عمق كل من هذه الأقبية يجلس التاجر القرفصاء من فوق مصطبة منخفضة وسط بضائعه ليُساوم مع حشد النساء من أمامه.
وسترى إلى يسارك كتلة من الأشجار، قد وُزِّعَتْ على مسافات منتظمة كالبُستان لتظّلل أكبر مساحة ممكنة، ومن أسفلها المذاود الطولية، ولكل منها مصدر ماء عند طرفه، وقد عقل في كل منها عدد من الحيوانات، ويمشي الرجال ما بين هذه المذاود ويتفحصون البهائم، بينما يمكن استعراض أحد الحيوانات المتفوقة، من جمل أو حمار أو بقرة، بأن يمشي به صاحبه جيئة وذهاباً.
ولما كانت هذه الحيوانات معروضة للبيع، فإن هناك رَسْمٌ يُدفع عنها عند دخولها للسوق؛ أما الحيوانات الأخرى التي تُقَوَّمُ فحسب بحمل أصحابها هم والبضائع إلى السوق، فإنها تظل بالخارج.
ووفرت موقفاً للحمير، زرعتُ فيه بالمثل أشجاراً لتوفير الظّلِّ وبه مَذاود ومصادر مياه، في الخارج مباشرة من ساحة السوق، بجوار السكة الحديد.
* * *