النتيجة الحتمية
كتبها: جون كليفلاند كوثران
من علماء الكيمياء والرياضة
دكتوراه من جامعة كورنل - رئيس قسم العلوم الطبيعية بجامعة دولث - أخصائي في تحضير النترازول وفي تنقية التنجستين

المُشَارَكَة:
قال لورد كيلفي -وهو من عُلَمَاءِ الطبيعة البارزين في العالم- هذه العبارة القيِّمَة: (إذا فكَّرْتَ تفكيراً عميقاً فإن العُلُومَ سَوْفً تًضْطَرُّكَ إلَى الاعتقاد في وجُودِ الله، ولَابُدَّ أنْ أعْلِنَ عَنْ مُوَافَقَتِي كُلَّ المُوَافَقَةِ عَلَى هَذِهِ العِبَارَةِ.
إن ملاحظة هذا الكون ملاحظة تقوم على الخبرة والذكاء وتدبُّر ما تعرفه عنه من جميع النواحي سوف تقودنا إلى التسليم بوجود ثلاثة عوالم من الحقائق، هي العالم المادِّي (المادَّة)، والعالم الفكري (العقل)، والعالم الرُّوحِي (الرُّوح).
وإن ما تُقَدِّمَهُ الكيمياء في هذا الميدإن لَابُدَّ أن يكون محدوداً لأنه قليل من كثير في هذا المجال.
والكيمياء، بحكم اختصاصها بدراسة التركيب والتغيُّرات التي تطرأ على المادَّة، بما في ذلك تحوُّل المادَّة إلى طاقة وتحوِّلُ الطاقة إلى مادَّة، تُعَدُّ من العُلوم المادِّية التي ليس لها صلة بعالم الرُّوحيَّات.
فكيف إذن يتسنَّى للكيمياء أن تُقَدِّمَ دليلاً مادِّياً على وجود الرُّوح الأعظم، أو الله الذي خلق هذا الكون؟
وكيف يُنتظرُ منها أن تختبر الفرض الذي يدَّعي أن هذا الكون قد نشأ بمحض المُصادفة، وإن المُصادفة هي التي تُدَبِّرُهُ وتُديرُهُ، وإن جميع ما يحدث فيه يتم بالطريقة العشوائية؟
إننا لنرى أن التطورات الهامَّة التي تمَّت في جميع العلوم الطبيعية خلال المائة السَّنة الأخيرة، بما في ذلك الكيمياء، قد حدثت بسبب استخدام الطريقة العلمية في المادة والطاقة.
وعند استخدام هذه الطريقة نبذل كل الجهود للتخلّص من كل احتمال من الاحتمالات المُمكنة التي تجعل النتيجة التي نصل إليها راجعة إلى محض المُصادفة.
وقد أثبتت جميع الدراسات العلمية بصورة ثبتت في الماضي ولا تزال ثابتة في الحاضر أن سُلُوكَ أي جزيءٍ من أجزاء المادَّة مهما صغر أو تضاءل حجمه، لا يمكن أن يكون سُلوكاً عشوائياً، بل أنه على نقيض ذلك يخضع لقوانين طبيعية مُحَدَّدَة.
وفي كثير من الأحيإن يتم اكتشاف القانون قبل اكتشاف أسبابه أو فهم طريقة عمله بفترة طويلة من الزمن، ولكن بمجرد معرفة القانون وتحديد الظروف التي يعمل في ظلّها، يثق الكيماويون فيه كل الثقة.
ويظل القانون عاملاً ومؤدِّياً إلى نفس النتائج.
وليس من المعقول أن يكون لدى الكيماويين كل هذه الثقة في القوانين الطبيعية لو أن سلوك المادة والطاقة كان من النوع العشوائي الذي تتحكم فيه المُصادفة.
وعندما يتم أخيراً إدراك الأسباب التي تجعل هذا القانون الطبيعي عاملاً وتفسر لنا حقيقته، فإن أي أثر لفكرة العشوائية أو المُصادفة في سلوك المادة أو الطاقة سوف يندثر اندثاراً تأمَّا.
ومنذ مائة سنة تقريباً رَتَّبَ العالم الروسي مانداليف العناصر الكيماوية تبعاً لتزايد أوزانها الذريَّة ترتيباً دورياً.
وقد وجد أن العناصر التي تقع في قسم واحد تؤلف فصيلة واحدة ويكون لها خواص متشابهة، فهل يمكن إرجاع ذلك إلى مُجَرَّدِ المُصادفة؟
وكذلك تمكّنَ العلماءُ بفضل هذا الترتيب أن يتنبأوا بوجود عناصر لم يكن البشر قد توصَّلوا إليها بعد، بل أمكن التنبؤ بخواص هذه العناصر المجهولة وتحديدها تحديداً دقيقاً، ثم صدقت نبواءتهم في جميع الحالات، فاكتشفت العناصر المجهولة وجاءت صفاتها مطابقة كل المطابقة للصفات التي توقعوها.
فهل يبقى بعد ذلك مكإن للاعتقاد في أن أمور هذا الكون تجري على أساس المُصادفة؟
إن اكتشاف مانداليف لا يُطلق عليه اسم المُصادفة الدوريَّة ولكنه يُسَمَّى (القانون الدوري)!
وهل يمكن أن نُفَسِّرَ على أساس المُصادفة ما وصفه وتوصَّل إليه العلماء السابقون من تفاعل ذرَّات عناصر (أ) مع ذرَّات عنصر (ب) وعدم تفاعلها مع عنصر (جـ)؟ كلا.
إنهم قد فسَّرُوا ذلك على أساس أن هنالك نوعاً من الميل أو الجاذبية بين جميع ذرات عنصر (أ) وجميع عنصر (ب).
ولكن هذا الميل أو الجاذبية مُنعدمٌ بين ذرَّات عنصر (أ) وذرَّات عنصر (ج).
وقد عرف العلماء كذلك أن سُرعة التفاعل بين ذرَّات المعادن القلوية والماء مثلاً تزداد بازدياد أوزانها الذريَّة.
بينما تسلكُ عناصر الفصيلة الهالوجينية سُلُوكاً مُناقضاً لهذا السُّلُوك كُلَّ المُناقضة.
ولا يعرف أحَدٌ سبب التناقض، ومع ذلك فإن أحداً لم يرجع ذلك إلى مَحْضِ المُصادفة أو يظن أنه ربما يتعدَّل سُلُوك هذه العناصر بعد شهر أو شهرين، أو تبعاً لاختلاف الزمان أو المكان، أو يخطرُ بباله أن هذه الذَّرَّات ربما لا تتفاعل بنفس الطريقة، أو بطريقة عكسية، أو طريقة عشوائية.
وقد أثبت اكتشاف تركيب الذرّة أن التفاعلات الكيماوية التي نشاهدها والخواص التي نلاحظها ترجع إلى وجود قوانين خاصة وليست محض مُصادفة عمياء.
أنظر إلى العناصر الكيماوية المعروفة التي يبلغ عددها اثنين بعد المائة، ولاحظ ما بينها من أوجه التشابه والاختلاف العجيبة.
فمنها المُلوَّن وغيره المُلوَّن، وبعضها غاز يصعب تحويله إلى سائل أو صلب، وبعضها سائل والآخر صلب يصعب تحويله إلى سائل أو غاز، وبعضها هش والآخر شديد الصلابة، وبعضها خفيف والآخر ثقيل، وبعضها موصل جيد والآخر رديء التوصيل، وبعضها مغناطيسي، والآخر غير مغناطيسي، وبعضها نشيط والآخر خامل، وبعضها يكون أحماضاً والآخر يكون قواعد، وبعضها معمر والآخر لا يبقى إلا لفترة محدودة من الزمإن ومع ذلك فإنها جميعاً تخضع لقانون واحد هو القانون الدوري الذي أشرنا اليه.
ومع ما يبدو من التعقيد في تركيب كل ذرة من ذرات العناصر العديدة، فإنها تتكوَّن جميعها من نفس الأنواع الثلاثة من الجزئيات الكهربائية، وهي البروتونات الموجبة والالكترونات السالبة والنيوترونات والتي يعتبر كل منها ناشئاً عن اتحاد بروتون واحد مع الكترون واحد.
وجميع البروتونات والنيوترونات التي بالذرة الواحدة تقع في نواة مركزية.
أمَّا الإلكترونات فإنها تدور حول محاورها في مدارات مختلفة حول النواة وعلى أبعاد شاسعة منها مُكوِّنَة ما يشبه مجموعة شمسية مصغرة.
وعلى ذلك فإن معظم حجم الذرة يعتبر فراغاً كما هي الحال في المجموعة الشمسية.
ونستطيع أن نبسط الأمر فنقول:
أن الفرق بين ذرة عنصر معين وعنصر آخر يرجع إلى الفرق في عدد البروتونات والنيوترونات التي بالنواة، وإلى عدد وطريقة تنظيم الالكترونات التي في خارج النواة.
وعلى ذلك فإن ملايين الأنواع من المواد المختلفة سواء أكانت عناصر أم مركبات، تتألف من جزيئات كهربية ليست في الواقع إلا مجرد صور أو مظاهر من الطاقة.
والمادة بوصفها تتكوَّن من مجموعات من الجزيئات والذَّرَّات، والجزيئات والذَّرَّات ذاتها، والإلكترونات والنيوترونات التي تتألف منها الذَّرَّات، والكهرباء والطاقة ذاتها، انما تخضع جميعاً لقوانين معينة وليست وليدة المُصادفة بحيث يكفي عدد قليل جداً من ذرات أي عنصر للكشف عنه ومعرفة خواصه.
وعلى ذلك فإن الكون المادي يسوده النظام وليس الفوضى، وتحكمه القوانين وليس المُصادفة أو التخبُّط.
فهل يتصوَّر عاقل أو يُفكر أو يعتقد أن المادة المُجرَّدة من العقل والحكمة قد أوجدت نفسها بنفسها بمحض المُصادفة؟
أو إنها هي التي أوجدت هذا النظام وتلك القوانين ثم فرضته على نفسها؟
لا شك أن الجواب سوف يكون سلبياً.
بل أن المادة عندما تتحوَّل إلى طاقة أو تتحوَّل الطاقة إلى مادَّة فإن كل ذلك يتم طبقاً لقوانين مُعَيَّنَةٍ، والمادة الناتجة تخضع لنفس القوانين التي تخضع لها المادة المعروفة التي أوجدت قبلها.
وتدلنا الكيمياء، على أن بعض المواد في سبيل الزوال أو الفناء، ولكن بعضها يسير نحو الفناء بسرعة كبيرة والآخر بسرعة ضئيلة.
وعلى ذلك فإن المادة ليست أبدية، ومعنى ذلك أيضاً أنها ليست أزلية، إذ أن لها بداية.
وتدل الشواهد من الكيمياء وغيرها من العلوم على أن بداية المادة لم تكن بطيئة أو تدريجية، بل أوجدت بصورة فجائية، وتستطيع العلوم أن تُحَدِّدَ لنا الوقت الذي نشأت فيه هذه المواد.
وعلى ذلك فإن هذا العالم المادي لَابُدَّ أن يكون مخلوقاً، وهو منذ أن خُلِقَ يخضع لقوانين وسُنَن كونية مُحَدَّدَة ليس لعنصر المُصادفة بينها مكان.
فإذا كان هذا العالم المادي عاجزاً عن أن يخلق نفسه أو يُحَدِّدَ القوانين التي يخضع لها، فلابد أن يكون الخلق قد تم بقدرة كائن غير مادي.
وتدل الشواهد جميعاً على أن هذا الخالق لابد أن يكون مُتَّصٍفاً بالعقل والحكمة.
إلا أن العقل لا يستطيع أن يعمل في العالم المادي كما في ممارسة الطب والعلاج السيكولوجي دون أن يكون هنالك إرادة، ولابد لِمَنْ يتصف بالإرادة أن يكون موجوداً وجوداً ذاتياً.
وعلى ذلك فإن النتيجة المنطقية الحتميَّة التي يفرضها علينا العقل ليست مقصورة على أن لهذا الكون خالقا فحسب، بل لابد أن يكون هذا الخالق حكيماً عليماً قادراً على كل شيءٍ حتى يستطيع أن يخلق هذا الكون وينظمه ويدبره، ولابد أن يكون هذا الخالق دائم الوجُود تتجلّى آياتُهُ في كل مكان.
وعلى ذلك فإنه لا مَفَرَّ من التسليم بوجود الله خالق هذا الكون وموجهه، كما أشرنا إلى ذلك في بداية هذا المقال.
إن التقدم الذي احرزته العلوم منذ أيام لورد كيلفن يجعلنا نؤكد بصورة لم يسبق لها مثيل ما قاله من قبل من أننا إذا فكَّرنا عميقاً فإن العلوم سوف تضطرنا إلى الإيمان بالله.