الفصل الثاني عشر: ضوابط وموازين
ما أعجب نظام الضوابط والموازنات الذي منع أي حيوان، مهما يكن من وحشيَّته، أو ضخامته، أو مَكْرِهِ مِنَ السَّيطرة على العالم مُنْذُ عصر الحيوانات القشريَّة المُتجمِّدة غير أنَّ الإنْسان وحده قد قَلَبَ هذا التَّوازن الذي للطبيعة بنقله النباتات والحيوانات من مكان إلى آخر، وسُرعان ما لقي جزاءه القاسي عن ذلك.

ماثلاً في تطوُّرات آفات الحيوان والحشرات والنبات.

والواقعة الآتية فيها مثلٌ بارزٌ على أهميَّة تلك الضَّوابط فيما يتعلّق بوجود الإنْسان: فمُنذُ سنوات عديدة زُرِعَ نَوْعٌ مِنَ الصَّبَّارِ CACTUS في استراليا، كسياج وقائي.

ولكن هذا الزَّرع مضى في سبيله حتى غطَّى مساحة تَقرُبُ من مساحة إنجلترا، وزاحَمَ أهالي المُدن والقُرى، وأتلف مزارعهم، وحال دون الزراعة.

ولم يجد الأهالي وسيلةً لِصَدِّهِ عن الانتشار وصارت أستراليا في خطر من اكتساحها بجيش من الزَّرع الصَّامت، يتقدَّم في سبيله دون عائق!

وطاف عُلماءُ الحَشرَات بنواحي العالم حتى وجدوا أخيراً حشرةً لا تعيشُ إلا على ذلك الصَّبَّار ولا تتغذَّى بغيره، وهي سريعة الانتشار وليس لها عدو يَعُوقُها في أستراليا.

وما لبثت هذه الحشرة حتى تغلّبت على الصَّبَّار، ثم تراجعت، ولم يبق منها سوى بقيَّة قليلة للوقاية، تكفي لصَدِّ الصَّبَّار عن الانتشار إلى الأبد.

وهكذا توافرت الضَّوابط والموزاين، وكانت دائماً مُجْدِيَة.

ولماذا لم تُسيطر بعُوضة الملاريا على العالم، إلى درجةٍ كان أجدادُنا يمُوتون معها، أو يكسِبُون مناعةً منها؟

ومثل ذلك أيضاً يُمكِنُ أنْ يُقال عن بعُوضة الحُمَّى الصَّفراء التي تقدَّمت شمالاً في أحَدِ الفُصول حتى وصلت إلى نيويورك.

كذلك البعُوض كثير في المنطقة المُتجمِّدة.

ولماذا لم تتطوَّر ذُبابة (تسي تسي) حتى تستطيع أنْ تعيش أيضاً في غير مناطقها الحارَّة، وتمحُو الجِنْسَ البشري من الوجود؟

يكفي أنْ يَذْكُرَ الإنْسانُ الطاعون والأوبئة والجراثيم الفتَّاكة التي لم تكن له منها وقاية حتى الأمس القريب، وأنْ يذكر كذلك ما كان له من جهل تام بقواعد الوقاية الصِّحيِّة، ليَعلمَ أنَّ بقاء الجنس البشري رغم ذلك يدعو حقاً إلى الدَّهشة!

إنَّ الأسماك والحشرات تبقى على قيد الحياة إذ يسري عليها قانون المُصادفة، فإنَّ آلاف البيضات التي تضعها يَفِرُّ بعضُها من المَوت الذي يَكْمُنُ في كُلِّ مكان لِمَنْ لا وقاية له.

وهذه الحقائق الغريبة التي للطبيعة تستحق الذِّكْرَ، وإنْ لم تكن بالضَّرورة أدِلَّةٌ حاسمة على وجود العناية الإلهيَّة.

ولكنَّ الإنسان قد بقيَ على قيدِ الحيَاةِ، وكذلك الحيوانات الرَّخْوَة، غير أنَّ الإنسان كان أشَدُّ احتياجاً إلى الترتيبات الوقائيَّة، وقد زُوِّدَ بها.

إنَّ الحشرات ليست لها رئتان كما للإنسان، ولكنها تتنفَّسُ عن طريق أنابيب، وحين تنمُو الحشرات وتكبُر، لا تَقْدِرُ تلك الأنابيت أنْ تُجاريهَا في نسبة تزايد حجمها.

ومِنْ ثَمَّ لم توجد قَطُّ حشرةً أطولُ من بِضْعَ بُوصَاتٍ، ولم يَطُلْ جناحَ حشرةٍ إلا قليلاً.

وبفضل جهاز تكوين الحشرات وطريقة تنفُّسِهَا، لم يكن في الإمكان وجُودُ حشرةٍ ضخمةٍ.

وهذا الحَدُّ من نِمو الحشرات قد كَبَحَ جِمَاحَهَا كُلَّهَا، ومنعها من السَّيطرةِ على العَالَمْ.

ولولا وجود هذا الضَّابط الطّبيعي، لَمَا أمكنَ وجود الإنسان على ظهر الأرض.

وتصوَّر إنساناً فِطرياً يُلاقِي زُنْبُوراً يُضاهي الأسَدَ في ضخامتِهِ، أو عنكباً (عنكبوتاً) في مثل هذا الحجم.

ولم يُذْكَر إلا القليل عن التنظيمات الأخرى المُدهشة في فيزيولوجيا الحيوانات، والتي بدونها ما كان أي حيوان -بل كذلك أي نبات- يمكن أنْ يبقى في الوجود.

غير أنَّ هذه الحقائق قد بلغت من الأهميَّة العُظمى بحيث يجب ذِكْرُهَا.

لقد تنبَّهَ العَالَمُ أخيراً إلى الحقيقة القائلة بأنَّ هناك أشياءَ تُسَمَّى بالفيتامينات.

وامتناع هذه الفيتامينات يُسَبِّبُ أمراض البلاجرا والبري بري والإسقربوط.

والأمراضَ المعروفة بأمراض نقص التغذيَّة.

ولا شَكَّ أنَّ الإنسان قد عاش ملايين السِّنينَ دون أنْ يدري بوجود هذه المَواد المُراوغة الضَّرورية لبقائه على قيد الحياة.

ولَمَّا كانت الأسفار البحريَّة الطويلة دون غذاءٍ كافٍ تؤدِّي إلى مرض الإسقربوط، وقد وُجِدَ أنَّ عصير الليمون ECUJ EMILIE هو علاجٌ له، فقد كان مَلّاحُو السُّفُنَ الكبيرة في العُهُود الماضية يُسَمُّونَ (بعاصري الّليْمُون).. وكان أولئك المَلّاحُونَ القُدامَى لا يعرفون سبب الإسقربوط.

وإنَّمَا اكتشفَ هذا الدَّواء البسيط الرَّحَّالَة فاسكو دي جاما حين كان مَلّاحُوهُ يمُوتُون في مدغشقر.

ولكن مضى قرنٌ من الزَّمان أو أكثر حتى عُرِفَتْ الصَّلة الوثيقة بين فواكه المَوَالِحِ وانقطاع مرض الإسقربوط، وزال هذا المرض الفتَّاك مِنْ أعَالِي البحار.

وانقضى كذلك قرنٌ آخَرَ أو أكثر ليُدركَ الإنسانُ قيمة الفيتامينات في فواكه المَوَالِحِ، ولكنَّهُ لم يكن يَعْلَمْ وقتئذٍ ما تحتويه هذه الفاكهة.

كذلك عاش الإنسانُ ملايين السِّنينَ قبل أنْ يعرفَ وظائفَ المعامل الكيمويَّة الصَّغيرة المعروفة باسم الغُدَدِ الصَّمَّاء، الّتي تَمُدُّهُ بالتركيبات الكيمويَّة الضَّروريَّة لهُ ضرورةً مُطلقة، والتي تُصَنِّعُهُ وتُسَيْطِرُ على وجُوهِ نشاطِهِ.

وفَضلاً عن ذلك، فإنَّ تلك المَوَادَ التي بَلَغَتْ من القوَّة أنَّ جُزءاً من بليون منها يُحْدِثُ آثاراً بعيدة المَدَى، وهي مُرَتَّبَةٌ بحيث يُنَظِّمُ كُلُّ مِنْهَا غيرها، ويضبطه ويُوازنه.

ومِنَ المُتَّفَقِ عليه أنَّهُ إذا اخْتِلَّ توازن هذه الافرازات المُعَقَّدَةِ تعقيداً مُدْهِشَاً، فإنَّهَا تُحْدِثُ اختلالاً ذهنيّاً وجُسمانيّاً بالغَ الخطر.

ولَوْعَمَّتْ هذه الكارثة لاندثرت المدنيَّة وانحطَّت البشريَّة إلى حالة الحيوانات، هذا إذا بقيت على قيد الحياة.

على أنَّنَا إذا أكَّدْنَا هذه الضَّوابط والمَوَازين والقُيُود وحدها، التي بدونها تتوقَّف الحياة كما نعهدُها، فإنَّ بقاء الإنسان على قيد الحياة يُواجهُنا بمسألةٍ حسابيَّةٍ تستحقُ قدراً كبيراً من العناية عند أنصار المُصَادَفَةِ.