الفصل الحادي عشر: أعظم معمل في العالم
لقد ألِّفَتْ كُتُبٌ في فيزيولوجيا الهضم، ولكن كُلَّ عامٍ يأتي باكتشافاتٍ جديدةٍ، مُدهشةٍ في هذا الموضوع تجعلهُ جديداً دائماً، ونحنُ إذا نظرنا إلى الهضم على أنَّهُ عملية في معمل كيموي، وإلى الطعام الذي نأكله، على أنَّهُ مواد غفل، فإنَّنَا نُدركُ تواً أنَّهُ عملية عجيبة، إذ يهضم تقريباً كُلَّ شيءٍ يُؤكل ما عدا المَعِدَةَ نفسها.

فأولاً نضع في هذا المعمل أنواعاً من الطعام كمَادِّةٍ غفل دون أي مُراعاة للمعمل نفسه، أو تفكير في كيفية معالجة كيميا الهضم له!

فنحن نأكل شرائح اللحم والكرنب، والحنطة والسمك المقلي، وندفعها بأي قدر من الماء، ثم نختمها بالخبز والفول.         

وقد نُضيفُ إلى كُلِّ ذلك كبريتاً وعسلاً أسود، كدواءٍ في الربيع.

ومن بين هذا الخليط، تختار المعدة تلك الأشياء التي هي ذات فائدة، وذلك بتحطيم كل صنف من الطعام إلى أجزاءه الكيمويَّة، دون مُراعَاةٍ للفضلات، وتُعيدُ تكوين الباقي إلى بروتينات جديدة تُصبحُ غِذَاءً لمُختلف الخلايا.

وتختار أداة الهضم الجمر والكبريت واليود والحديد وكل المواد الأخرى الضرورية وتعني بعدم ضياع الأجزاء الجوهرية، وبإمكان إنتاج الهرمونات، وبأن تكون جميع الحاجات الحيوية للحياة حاضرة في مقادير مُنتظمة، ومُستعدَّة لمواجهة كل ضرورة.

وهي تُخَزِّنُ الدُّهن والمواد الاحتياطية الأخرى، للقاء كل حالة طارئة، مثل الجُوع، وتفعل ذلك كله بالرغم من تفكير الإنسان أو تعليله.

إنَّنَا نَصُبُّ هذه الأنواع التي لا تُحصى من المواد في هذا المعمل الكيموي، بصرف النَّظر كليَّةً تقريباً عَمَّا تناوله، مُعتمدين على ما نحسبه عمليَّة ذاتيَّة (أوتوماتيكي) لإبقائنا على قيد الحياة.

وحين تتحلَّل هذه الأطعمة، وتُجَهَّزُ من جديد، تُقَدِّمُ باستمرار إلى كُلِّ خليَّة من بلايين الخلايا، التي تبلغ من العدد أكثر من عدد الجنس البشري كله على وجه الأرض.

ويجب أنْ يكون التوريد إلى كُلِّ خليَّة فرديَّة مُسْتَمِرًّا، وألَّا يُوَرِّد سوى تلك المواد التي تحتاج إليها تلك الخليَّة المعنيَّة لتحويلها إلى عظام وأظافر ولحم وعينين وأسنان وشَعْرٍ كما تتلقّاها الخليَّة المُختصَّة.

فها هنا إذنْ معمل كيموي يُنتج من المواد أكثر مِمَّا يُنتجهُ أيَّ معمل ابتكره ذكاء الإنسان، وها هنا نظام للتوريد أعظم من أي نظام للنقل أو التوزيع عرفه العالم، ويتم كُلَّ شيءٍ فيه بمُنتهى النِّظام!

ومُنْذُ الطفولة إلى سِنِّ الخمسين مثلاً لا يُخطئُ هذا المعمل خطئاً ذا بال، مع أنَّ المَواد نفسها التي يُعالجُها يُمكن أنْ تكون بالفعل أكثر من مليون نوع من الجزيئات MOLECULES، وكثيرٌ منها سام، وحين تُصبح قنوات التوزيع مُتباطئة من طُول الاستعمال، ينتابُنَا الضَّعف وأخيراً يُصيبُنا الكِبَرُ!.

إنَّ الطعام الأصلي حين تستوعبه كل خليَّة، لا يزال مُجَرَّد طعام أصلي.

ثم تصبح عمليَّة كل خليَّة هي عمليَّة احتراق وهي المسئُولة عن حرارة الجسم كله.

وأنْتَ لا يمكنك أنْ تأتي احتراقاً دون إشعال.

بل يجب أنْ توقد أولاً، ولذا تُهيِّءُ الطبيعة تركيباً كيموياً صغيراً يشعل ناراً مُسَيْطَرٌ عليها لأجل الأوكسجين والهيدروجين والكربون بكُلِّ طعام في كل خليَّة.

وبذا تنتج الدِّفئ اللازم، والنتيجة -كما هي في كل نار- هي بخار الماء وثاني أوكسيد الكربون والدَّم يحمل ثاني أوكسيد الكربون إلى الرئتين، وهو فيهما الشَّيْءُ الوحيد الذي يجعلك تستنشق نسمات الحياة، والشَّخص ينتج نحو رطلين من ثاني أوكسيد الكربون في اليوم، ولكن هناك عمليات مُدهشة تُخلِّصْهُ منه.

وكل حيوان يهضم الطعام، ويجب أنْ ينال المواد الكيمويَّة الخاصَّة التي يحتاج إليها بصفة فرديَّة.

وحتى في أدق التفاصيل تختلف المُحتويات الكيمويَّة في الدَّم، مثلاً، بين كل نوع وآخر، ومن ثَمَّ تُوجد عمليَّة تكوينيَّة خاصَّة لكل نوع.

وفي حالة العَدْوَى بجراثيم مُعَادِيَة، يحتفظ الجهاز أيضاً بجيشٍ قائمٍ باستمرار ليُلاقِي الغُزَاة، وهو عادة يتغلّب عليها ويحمي تكوين الإنسان من الموت المُبَكِّر.

ومثل هذه المجموعة من المعجزات لا يوجد، ولا يمكن أن يحدث بأي حال، في غيبة الحياة.

وكل ذلك يتم في نظام كامل، والنِّظام مُضَادٌ إطلاقاً للمُصَادَفَة.

أليس ذلك كُلَّهُ مِنْ صُنْعِ الخَالِق؟

إذن ذلك النِّظام هو قَرِينُ الحياة.

ولكن ما هي الحياة؟