مقدمة المُؤَلّف: كريسى موريسون
بلغ العصر الذهبي للفلسفة الطبيعية ذروته فيما بين سنتي 1820 - 1850.

وكانت تلك الفلسفة تُبرهنُ على وجود خطة مرسومة في الخلق.

بإبداء عجائب الطبيعة وكان الفيلسوف الطبيعي يسترعى الانتباه إلى براءة تكوين العين البشرية بما تحويه من تنظيمات تلسكوبية ومكروسكوبية، وكان يذكر ما في مفاصل الإنسان من ليونة وتنظيم يدعوان إلى العجب.

وكان يدهش لخفايا التكاثر، وإحكام الوسائط التي يواصل الإنسان وكل كائن حي بها.

وكان يُبَيِّنُ العمليات الكيماوية الفريدة التي تقوم بها الكائنات الحيَّة، مثل هضم الطعام وتمثله، بعين فلسفته التقية، فيراها براهين قاطعة على وجود خطة وتدبير في الطبيعة، ومن ثَمَّ على وجود الخالق المُدَبِّر.

وقد ضرب بإلى PALEY مثلاً من تأثره من وجود ساعة يد في طريقه، وقال إن جهازها الدقيق أقل سبباً للعجب بمراحل، من دلائل عديدة على دقة التصميم في الطبيعة، ودعاه ذلك إلى أن استرعى الأنظار إلى أن مثل هذه الأداة تُثبت لأكثر الناس شكَّاً، أن هناك عملية ذهنية طبقت على الميكانيكا، ثم قال إننا لو فرضنا أن هذه السَّاعة قد منحت القدرة على إيجاد ساعات أخرى، فإن ذلك لا يكون معجزة تفوق معجزة توالد الإنسان والحيوان!

وبلغ من مدى هذا التعليل والاقتناع به أن أفرد مبلغ 000ر48 دولار للجمعية الملكية البريطانية لتقوم ببحوث في مختلف ميادين العلم، لتثبت بها بشكل قاطع، وجُودَ الله.

وكانت النتيجة نحو اثني عشر مجلداً كتبها أعضاء تلك الجمعية وآخرون غيرهم.

وقد بيَّنت هذه الدراسات، بشكل حازم في الظاهر، وجود تصميم في الخلق، ودلّت فلاسفة ذلك العهد على وجود الكائن الأعلى.

ولَمَّا ظهر داروين، طرقت فِكْرِ الإنسان نظرية جديدة، هي: (بقاء الأصلح) وتطور الإنسان.

وكانت دراسة داروين الشَّامِلَة، والحقائق الكثيرة التي استشهد بها لتأييد نظريته تحمل الإقناع في طيَّاتها.

وكانت البراهين التي كدَّسها والحقائق التي جاء بها خلفاؤه، مؤيدة لنظرية التطور حتى اليوم، وقد وصلت بها إلى أبعد من تطبيقاته.

والآن انقضى أكثر من ثمانين عاماً على نظرية داروين، وتقدَّم العِلمُ تقدُّماً كبيراً، وبينما تقف نظرية داروين كالصخرة الثابتة التي لا تتزحزح، قد تكشف العالم الفلسفة كثير من الحقائق التي يمكن إيضاًحها، والتي تصل بنا إلى نتائج حاسمة أخرى في حَيِّزِ الإمكان.

فعلم الوراثة الحديث يُقيم أسئلة تصعب الاجابة عنها، والاكتشافات الأخرى تجعل من عمل داروين مجرد خطوة عظيمة في سير الفكرة الفلسفية إلى الأمام.

ودون إنقاص من دقة استنتاجاته أو عظمة دراساته، لا يقدر الآن أحَدٌ أن يقول كما قال هيكل HAECKEL أنه لو أعْطِيَ ماءً، ومواد كيموية، ووقتاً كافياً، لاستطاع أن يخلق إنساناً.

وقد وصل بعض اتباع داروين باستدلالاته إلى حَدِّ الإلحاد المادي، وحيال ذلك، تطرَّف الآخرون، أولئك الذين الهموا الإيمان بوجود (الخالق) وأن هناك غاية في جميع المخلوقات، فأنكروا نظرية التطور.

والآن لا محل لاتخاذ مثل هذا الموقف الضعيف، سواءً لأنصار فكرة التطور، أو لذوي العقلية الدينية، لأن العلم قد أوضح الآن حقائق تصل إلى إزالة تلك الخلافات الظاهرية، وتنور الفريقين.

ومن عجب أن الاكتشافات الحديثة، وفرص البحث المُتَّسع، قد بعثت النتائج التي وصل إليها الفلاسفة الطبيعيون والتي قد كانت قد حجبتها تماماً نظريات داروين، والحُجج السَّليمة التي بُنيَت تنظيم الإنسان للطبيعة، يجب أن تتابع الآن ببحث جديد في دلائل تنظيم الطبيعة للإنسان، وهو ما أغفل نسبياً من خلال الثمانين سنة الماضية.

وغرضي من تأليف هذا الكتاب هو أن أسترعي انتباه المُفكِّرين إلى الحقائق التي صار مُمكناً إثباتها، والتي ترى تأييد الاعتقاد بذلك التنظيم، وتَدُلُّ على الغاية منها.

إن وجود الخالق، تَدُلُّ عليه تنظيمات لا نهاية لها، تكون الحياة بدونها مستحيلة.

وإن وجود الإنسان على ظهر الأرض، والمظاهر الفاخرة لذكائه، إنما هي جزء من برنامج يُنَفِّذْهُ بارئ الكون.

وإنى لأورد قول أوسبورن OSBORN في هذا المجال: (بين جميع الأشياء التي لا يمكن إدراكها في الكون، يقف الإنسان في الطليعة، وبَيَّنَ الأشياء التي لا يمكن إدراكها في الإنسان، تتركَّز الصعوبة الكبرى فيما له من مخ، وذكاء، وذاكرة وآمال، وقوة كشف وبحث، وقدرة على تذليل العقبات).

وإنى لأعتقد أن مَنْ يقرأ هذا المُوجز من الحقائق العلميَّة سوف ينتهي إلى أن الهُوَّةَ السَّحيقة التي بين الذّهن البشري المُدهش وبين جميع الكائنات الحيَّة الأخرى، هي أقل تمنُّعاً على الإدراك مِمَّا فرض أوسبورن OSBORN حين كتب ما كتبه.

إن الإنسان ليسكب مزيداً لا حَدَّ له من التَّقدُّم الحسابي في كل وحدة للعلم، غير أن تحطيم (1) ذرة التون -التي كانت تُعَدُّ أصغر قالب في بناء الكون- إلى مجموعة نجوم مكوَّنة من جرم مذنب والكترونات طائرة، قد فتح مجالاً لتبديل فكرتنا عن الكون والحقيقة، تبديلاً جوهرياً.

ولم يَعُدْ التناسق الميِّت للذرَّات الجامدة يربط تصورنا بما هو مادي.

وإن المعارف الجديدة التي كَشَفَ عنها العلم لتدع مجالاً لوجود مُدَبِّرٍ جَبَّار، وراء ظواهر الطبيعة.

وهذا ضوء باقي على الخفاء الوسيع الذي يحيط الآن بما هو غير معروف لنا ظاهرياً، وقد يقودنا هذا الضوء إلى الاعتراف بوجود عقل عام أسمى، أي إلى وجود الخالق.
--------------------------------
(1) قال الله تعإلى في كتابه الكريم: (سورة سبأ):
(وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة، قل بل وربي لتأتينَّكم، عالم الغيب لا يَعْزُبُ عنه مثقال ذَرَّةٍ في السَّموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبرُ إلا في كِتَابٍ مُبين.
(المُتَرْجِمْ)
--------------------------------