الفصل الرابع: (الشريعة والتكفير)
المبحث الأول: خطـــر التكفير
التكفير سبب لصنوف من الانحراف والضلال وأشد ذلك وأعظمه خطراً هو الحكم بذلك على الأشخاص والجماعات والأنظمة دون فقه أو تثبت، أو اعتبار للضوابط الشرعية، وهو ما وقع فيه بعض الأفراد والجماعات في هذا العصر، حيث توجهوا إلى تكفير الناس بغير برهان من كتاب الله، ولا سنة رسوله (صلى الله عليه وسلم)، ورتبوا على ذلك استباحة الدماء والأموال، والاعتداء على حياة الناس الآمنين المطمئنين في مساكنهم ومعايشهم، والاعتداء على مصالحهم العامة التي لا غنى للناس في حياتهم عنها، فحصل بذلك فساد كبير في المجتمعات الإسلامية.

وقد جاءت النصوص بالتحذير من التكفير، والوعيد الشديد لمن كفر أحداً من المسلمين، وليس هو كذلك، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما).

وعن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (مَنْ دعا رجلاً بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه).

كما دلَّت النصوص على أن التكفير لا يتم إلا بوجود أسبابه وانتفاء موانعه، ولذا قد يرد في الكتاب والسنة ما يفهم منه أن هذا القول أو العمل أو الاعتقاد كفر، ولا يكفر من اتصف به لوجود مانع يمنع من كفره كالإكراه.

وقد ينطق المسلم بكلمة الكفر لغلبة فرح أو غضب أو نحوهما، فلا يكفر بها لعدم القصد كما في قصة الذي قال: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك)   أخطأ من شدة الفرح، وكالذي أخبر عنه النبي (صلى الله عليه وسلم) بقوله: (كان رجل مِمَّنْ كان قبلكم يُسِيءُ الظنَّ بعمله فقال لأهله: إذا أنا مِتُّ فخذوني فذروني في البحر في يوم صائف ففعلوا به، فجمعه الله ثم قال: ما حملك على الذي صنعت؟ قال: ما حملني عليه إلا مخافتك فغفر له).  

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
(فهذا رجل شَكَّ في قدرة الله، وفي إعادته إذا ذُري، بل اعتقد أنه لا يُعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكنه كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف الله أن يُعاقبه، فغفر له بذلك، والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول (صلى الله عليه وسلم) أولى بالمغفرة من ذلك).  

هذه الضوابط ونحوها مما بينه العلماء، وفصلوا القول فيه تبين خطأ منهج أهل التكفير، وغلوهم وضلالهم عن منهج سلف الأمة.

وبالجملة:
فإن الواجب مراعاة قواعد الاستدلال؛ برد المتشابه إلى الحكم، والمجمل إلى المبين، والجمع بين النصوص، واعتماد تفسير الصحابة رضي الله عنهم وفهمهم للنصوص، فهم قد عاشوا وقت تنزل الوحي، وأعلم باللغة ومقاصد الشرع، ثم آثار السلف الصالح أئمة الهدى الذين يُقتدى بهم، بهذا يتوصل إلى الحق وتحصل السلامة من الزيغ والضلال.

المبحث الثاني: بيان هيئة كبار العلماء في التكفير
مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية الممثل لأعلى مؤسسة شرعية علمية فيها ويشمل في عضويته عدداً من العلماء المتولين لقيادة المؤسسات الشرعية المختلفة من إفتاء وقضاء ودعوة وغيرها ونظرة العالم الإسلامي لهذا المجلس نظرة تقدير وإجلال لما يحوي في عضويته على علماء راسخين في العلم عارفين بنصوص الشرع ومقاصده العليا.

وقد أصدر في دورته التاسعة والأربعين المنعقدة في الطائف بتاريخ 2/4/1419هـ بياناً حول هذا الموضوع هذا نصه:
(فقد درس مجلس هيئة كبار العلماء في دورته التاسعة والأربعين المنعقدة بالطائف ابتداء من تاريخ 2/4/1419هـ ما يجري في كثير من البلاد الإسلامية وغيرها من التكفير والتفجير, وما ينشأ عنه من سفك الدماء, وتخريب المنشآت, ونظرا إلى خطورة هذا الأمر, وما يترتب عليه من إزهاق أرواح بريئة، وإتلاف أموال معصومة, وإخافة للناس وزعزعة لأمنهم واستقرارهم، فقد رأى المجلس إصدار بيان يوضح فيه حكم ذلك نصحا لله ولعباده وإبراء للذمة وإزالة للبس في المفاهيم لدى من اشتبه عليهم الأمر في ذلك.

فنقول وبالله التوفيق:
أولاً:
التكفير حكم شرعي, مرده إلى الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم) فكما أن التحليل والتحريم والإيجاب إلى الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم), فكذلك التكفير وليس كل ما وصف بالكفر من قول أو فعل، يكون كفرا أكبر مخرجا عن الملة.

ولما كان مرد حكم التكفير إلى الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم) لم يجز أن نكفر إلا من دل الكتاب والسنة على كفره دلالة واضحة فلا يكفي في ذلك مجرد الشبهة والظن، لما يترتب على ذلك من الأحكام الخطيرة، وإذا كانت الحدود تدرأ بالشبهات, مع أن ما يترتب عليها أقل مما يترتب على التكفير، فالتكفير أولى أن يدرأ بالشبهات ولذلك حذر النبي (صلى الله عليه وسلم) من الحكم بالتكفير على شخص ليس بكافر، فقال: (أيما امرئ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال وإلا رجعت عليه). 

وقد يرد في الكتاب والسنة ما يفهم منه أن هذا القول أو العمل أو الاعتقاد كفر, ولا يكفر من اتصف به لوجود مانع يمنع من كفر وهذا الحكم كغيره من الأحكام التي لا تتم إلا بوجود أسبابها وشروطها، وانتفاء موانعها كما في الإرث, سببه القرابة -مثلاً- وقد لا يرث بها لوجود مانع كاختلاف الدين، وهكذا الكفر يكره عليه المؤمن فلا يكفر به وقد ينطق المسلم بكلمة بالكفر لغلبة فرح أو غضب أو نحوهما فلا يكفر بها لعدم القصد كما في قصة الذي قال: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك).  

أخطأ من شدة الفرح والتسرع في التكفير يترتب عليه أمور خطيرة من استحلال الدم والمال، ومنع التوارث، وفسخ النكاح وغيرها مما يترتب على الردة، فكيف يسوغ للمؤمن أن يقدم عليه لأدنى شبهة.

وإذا كان هذا في ولاة الأمور كان أشد ؛ لما يترتب عليه من التمرد عليهم وحمل السلاح عليهم وإشاعة الفوضى وسفك الدماء، وفساد العباد والبلاد، ولهذا منع (صلى الله عليه وسلم) من منابذتهم فقال (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان). 

فأفاد قوله: (إلا أن تروا) أنه لا يكفي مجرد الظن والإشاعة، وأفاد قوله:  (كفـر) أنه لا يكفي الفسوق ولو كبُرَ، كالظلم وشرب الخمر ولعب القمار، وأفاد قوله: (بواحاً) أنه لا يكفي الكفر الذي ليس ببواح أي صريح ظاهر، وأفاد قوله: (عندكم فيه من الله برهان) أنه لابد من دليل صريح بحيث يكون صحيح الثبوت صريح الدلالة فلا يكفي الدليل ضعيف السند ولا غامض الدلالة، وأفاد قوله: (من الله) أنه لا عبرة بقول أحد من العلماء مهما بلغت منزلته في العلم والأمانة إذا لم يكن لقوله دليل صريح صحيح من كتاب الله أو سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهذه القيود تدل على خطورة الأمر.

وجملة القول:
أن التَّسَرُّعَ في التكفير له خطره العظيم؛ لقول الله عز وجل: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ).

ثانياً:
ما نجم عن هذا الاعتقاد الخاطئ من استباحة الدماء وانتهاك الأعراض وسلب الأموال الخاصة والعامة وتفجير المساكن والمركبات، وتخريب المنشآت، فهذه الأعمال وأمثالها محرمةً شرعاً بإجماع المسلمين؛ لما في ذلك من هتك لحرمة الأنفس المعصومة وهتك لحرمة الأموال وهتك لحرمات الأمن والاستقرار وحياة الناس الآمنين المطمئنين في مساكنهم ومعايشهم وغدوهم ورواحهم وهتك للمصالح العامة التي لا غنى للناس في حياتهم عنها وقد حفظ الإسلام للمسلمين أموالهم وأعراضهم وأبدانهم وحرم انتهاكها، وشدد في ذلك، وكان من آخر ما بلغ به النبي (صلى الله عليه وسلم) أمته.

فقال في خطبة حجة الوداع:
(إنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا،في شهركم هذا في بلدكم هذا) ثم قال (صلى الله عليه وسلم): (ألا هل بلغت اللهم فاشهد).   

وقال (صلى الله عليه وسلم): (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه).

وقد توعَّد اللهُ سبحانه مَنْ قتل نفساً معصومةً بقوله سبحانه في حق المؤمن: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا).

وقال في حق الكافر الذي له ذِمَّةٌ في حكم قتل الخطأ:
(فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً).

فإذا كان الكافر الذي له أمان إذا قتل خطأ فيه الدِّيَّةُ والكفَّارة، فكيف إذا قتل عمداً، فإن الجريمة تكون أعظم والإثم يكون أكبر وقد صح عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (مَنْ قتل مُعَاهداً لم يرح رائحة الجنة).

ثالثاً:
إن المجلس إذ يبين حكم تكفير الناس بغير برهان من كتاب الله وسنة (صلى الله عليه وسلم) وخطورة إطلاق ذلك، لما يترتب عليه من شرور وآثام، فإنه يعلن للعالم أن الإسلام بريء من هذا المعتقد الخاطئ وأن ما يجري في بعض البلدان من سفك للدماء البريئة، وتفجير للمساكن والمركبات والمرافق العامة والخاصة، وتخريب للمنشآت هو عمل إجرامي والإسلام بريء منه وهكذا كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر بريء منه وإنما هو تصرف من صاحب فكر منحرف وعقيدة ضالة فهو يحمل إثمه وجرمه فلا يحتسب عمله على الإسلام ولا على المسلمين المهتدين بهدي الإسلام المعتصمين بالكتاب والسنة المستمسكين بحبل الله المتين، وإنما هو محض إفساد وإجرام تأباه الشريعة والفطرة ولهذا جاءت نصوص الشريعة قاطعة بتحريمه محذرة من مصاحبة أهله.

قال الله تعالى:
(وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ).  

والواجب على جميع المسلمين في كل مكان التواصي بالحق والتناصح والتعاون على البر والتقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن كما قال الله ( وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).  

وقال سبحانه:
(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

وقال عز وجل:
(وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).  

وقال (صلى الله عليه وسلم): (الدين النصيحة قيل: لِمَنْ يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمَّة المسلمين وعامَّتهم) وقال (صلى الله عليه وسلم): مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسَّهر والحُمَّى).  

والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ونسأل الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يكف البأس عن جميع المسلمين، وأن يوفق جميع ولاة أمور المسلمين إلى ما فيه صلاح العباد والبلاد وقمع الفساد والمفسدين، وأن ينصر بهم دينه، ويعلي بهم كلمته وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا في كل مكان، وأن ينصر بهم الحق، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه)أهـ

وقد نَبَّهَ علماؤنا إلى خطورة هذه المسألة وعظم شأنها، وما يترتب عليها من نتائج وتبعات سواء في الدنيا أو الآخرة.

وإليك جملة من كلامهم في ذلك:
قال ابن تيمية رحمه الله:
(أعلم أن مسائل التكفير والتفسيق هي من مسائل الأسماء والأحكام التي يتعلق بها الوعد والوعيد في الدار الآخرة وتتعلق بها الموالاة والمعاداة والقتل والعصمة وغير ذلك في الدنيا فإن الله سبحانه أوجب الجنة للمؤمنين وحرم الجنة على الكافرين وهذا من الأحكام الكلية في كل وقت ومكان). 

وقال ابن الوزير رحمه الله:
(وكم بين إخراج عوام فرق الإسلام أجمعين، وجماهير العلماء المنتسبين إلى الإسلام من الملة الإسلامية وتكثير العدد بهم وبين إدخالهم في الإسلام ونصرته بهم وتكثير أهـله، وتقوية أمره، فلا يحل الجهد في التفريق بتكلف التكفير لهم بالأدلة المعارضة بما هو أقوى منها أو مثلها مما يجمع الكلمة ويقوي الإسلام، ويحقن الدماء، ويسكن الدهماء حتى يتضح كفر المبتدع اتضاح الحق الصادق وتجتمع عليه الكلمة). 

قال الشوكاني رحمه الله:
(اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام، ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يُقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، أن مَنْ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما).

قال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:
(وبالجملة فيجب على مَنْ نصح نفسه ألا يتكلم في هذه المسألة إلا بعلم وبرهان من الله، وليحذر من إخراج رجل من الإسلام بمجرد فهمه واستحسان عقله، فإن إخراج رجل من الإسلام أو إدخاله من أعظم أمور الدين (وقد استزل الشيطان أكثر الناس في هذه المسألة، فقصر بطائفة فحكموا بإسلام من دلت نصوص الكتاب والسنة والإجماع على كفره وتعدى بآخرين فكفروا من حكم الكتاب والسنة مع الإجماع بأنه مسلم..).