المبحث الثاني
أحداث 11 سبتمبر وانعكاساتها إقليمياً ودولياً

في الساعة التاسعة من صباح الثلاثاء، الحادي عشر من سبتمبر2001، اخترقت طائرة ركاب مدنية تابعة لشركة "أمريكان إيرلاينز" أحد برجي مركز التجارة العالمي، وأحدثت به ثغرة هائلة في واجهته، وأشعلت النار في طوابقه العليا، وبعد 18 دقيقة اخترقت طائرة أخرى المبنى الثاني للمركز، وأسفر الهجوم عن سقوط برجي مركز التجارة العالمي، ولم يمض وقت طويل حتى هاجمت طائرة ثالثة مبنى وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون"، في العاصمة واشنطن، بينما انفجرت طائرة رابعة في بنسلفانيا.

وأدى الحادث إلى إصابة الولايات المتحدة الأمريكية بالشلل المؤقت، وأصيب الشعب الأمريكي بالذهول والرعب والخوف، وسرعان ما أعلنت حالة الطوارئ، وبدأت عملية إدارة الأزمة بتأمين حياة الرئيس الأمريكي، وزعماء الكونجرس، ونقلهم إلى أماكن غير معلومة، وبدأت الولايات المتحدة الأمريكية في إخلاء المباني الفيدرالية، ووضعت القوات الأمريكية في حالة تأهب قصوى، وأغلق المجال الجوي الأمريكي وإغلاق الحدود مع المكسيك وكندا.

كما أغلقت جميع الجسور التي تربط جزيرة منهاتن بباقي نيويورك ونيوجرسي، وتوقف العمل في بورصة نيويورك، وطالبت الولايات المتحدة بعثاتها الدبلوماسية باتخاذ إجراءات قصوى للأمن، كما أخلت مقر الأمم المتحدة في نيويورك، وأُجِّل اجتماع الجمعية العامة للمرة الأولى في تاريخها، وقد ترتب على الحادث تدمير كامل لبرجي مركز التجارة العالمي وجزء من البنتاجون، ومقتل وفقد نحو (6964) شخصاً، بالإضافة إلى الخسائر التي أصابت الاقتصاد الأمريكي.

أولاً: سمات هجمات الحادي عشر من سبتمبر
بالرغم من كون هجمات الحادي عشر من سبتمبر، ليس الحادث الإرهاب الأول الذي يشهده العالم، وتتعرض له الولايات المتحدة، إلا أنه انفرد بجملة من الخصائص ميَّزته عن غيره من الأحداث الإرهابية التي شهدها العالم في تاريخه المعاصر.

ومن أبرز هذه السِّمَات:
1. أن الهجوم أصاب مواقع حيوية وإستراتيجية، أثّرت على مكانة الولايات المتحدة الأمريكية وهيبتها من الناحية الدولية، وانهارت معه المزاعم الأمنية الأمريكية، وهو ما دفع القيادة الأمريكية إلى القيام بمراجعة شاملة لمفهوم الأمن الداخلي ومؤسساته وبرامجه ضمن إستراتيجيات جديدة، تأخذ في حسبانها التهديدات الداخلية بالقدر نفسه الذي تأخذ به التهديدات الخارجية.

2. أن هذا الهجوم لم ينطلق من دولة معينة، ولم ينفذه عدد محدَّد، يمكن الرد عليه وإلحاق الهزيمة به، بما يعيد للولايات المتحدة الأمريكية هيبتها ومكانتها، ولم يكن أمام الولايات المتحدة سوى إعلان الحرب على الجماعات الإرهابية، التي خططت لهذا الهجوم، وهذا يعنى أيضاً أن الرد لن يقتصر على هدف محدَّد يمكن القضاء خلاله على المجموعات المسؤولة عن الهجوم، وإنما يتعدَّى ذلك على ضرب مراكز تجمع هذه الجماعات داخل دول بعينها.

3. أن هذا الهجوم، لم تتورط فيه دولة من الدول -لا بشكل مباشر أو غير مباشر- لأن حسابات الدول تختلف عن حسابات الأفراد، ولا توجد دولة من دول العالم الراهنة، يمكنها المُجازفة بعمل من هذا النوع، مهما كان عداؤها للولايات المتحدة الأمريكية، وهذا يؤكد أن منفذي الهجوم ليسوا سوى أفراد ينتمون إلى فكر وعقيدة، ويتخذون مواقف حادَّة تجاه مسلك الولايات المتحدة الأمريكية: السياسي والعسكري.

4. حتى يكون الرَّد الأمريكي متناسباً مع هذه الخسائر، ومحققاً  لنزعة الانتقام، فلابد أن تكون الخسائر التي يتكبدها منفذو الهجوم، أشد وأبلغ من الخسائر التي تكبدتها الولايات المتحدة، وهو ما لم يتحقق، فعلى الرغم من إسقاطها حركة طالبان وتشتيت تنظيم القاعدة وتدمير البنية الفوقية والتحتية لأفغانستان، التي هي في غاية الضعف أصلاً، فإن الولايات المتحدة الأمريكية لم تشبع رغبتها في الانتقام، ومن ثَمَّ لم تجد  أمامها سوى أن تصطنع عدواً يتناسب وحجمها والتحرك الذي ينبغي أن تقوم به لتجعل من أسامة بن لادن ومجموعته قوة لها شأنها وخطراً يهدد الاستقرار والأمن العالميين، وعلى الولايات المتحدة الأمريكية قيادة العالم المتحضر للتحرك المشترك من أجل القضاء على هذا الخطر.

5. أن الهجوم لم يأت من خارج الولايات المتحدة، وإنما من داخلها وعبر مطاراتها وأجهزتها المدنية المختلفة، ما ينسف قدرات الأجهزة الأمنية الأمريكية، كما أن الطريقة التي نفذ بها الهجوم، أذهلت الجميع وفاقت جميع التوقعات، كما أن الهجوم استهدف الولايات المتحدة الأمريكية، فقط، دون غيرها من الدول، ما يعني أنها مستهدفة لذاتها رد فعل على سياساتها ومواقفها.

6. أن الجهة المستهدفة من الهجوم وهى الولايات المتحدة الأمريكية، يشترك معها العديد من الدول الكبرى، مثل دول حلف الناتو، في الدوافع التي ربما كانت تقف وراءه، مثل سياسات العولمة والهيمنة على البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وفرض سياساتهما، ما يجعل تلك الدول تعي بجدية أبعاد ما حدث، وتتوقع حدوث الأمر نفسه لها في أي وقت من الأوقات.

7. أن هذا الهجوم أدى إلى استنفار جميع الدول بلا استثناء، للوقوف صفاً واحداً للرد على المسئولين عنه، ومواجهة آثاره وتداعياته، خاصة أن بعض الدول توقعت أن يكون هذا الهجوم له امتدادات أخرى، بحيث يمكن أن يشملها، بحيث لا تستبعد تعرضها لهجمات مماثلة في المستقبل.

ثانياً: الحقائق التي فرضتها أحداث 11 سبتمبر
فرضت أحداث 11 سبتمبر على العالم مجموعة من الحقائق التي تمثلت في الآتي:
1. أن هذه الأحداث -بالرغم من قيام مجموعة صغيرة بها- إلاَّ أنها فرضت تهديداً على أمن الولايات المتحدة الأمريكية، بل إن الهجمات الانتقامية ضد حركة طالبان وتنظيم القاعدة لم تُعد للولايات المتحدة الأمريكية هيبتها التي فقدت نتيجة لهذه الأحداث.

2. وضح للولايات المتحدة الأمريكية أن التقدم العلمي والتكنولوجي الكبير الذي تتمتع به، يمكن أن يخترق، وأنها لابد أن تفكر في مجالات أخرى لحماية أمن مجتمعاتها، وأن تراجع سياستها تجاه الآخرين.

ثالثاً: انعكاسات هجمات 11 سبتمبر على الولايات المتحدة
إن هجمات الحادي عشر من سبتمبر تُعَدّ حادثاً تاريخياً بكل المعايير، كما يُعَدّ أضخم وأجرأ هجوم مُعاد للولايات المتحدة الأمريكية، ينفذ داخل أراضيها منذ قيام الاتحاد الأمريكي، ولذلك نتجت عن تلك الهجمات تأثيرات قوية، خاصة على الصعيد الداخلي الأمريكي.

نذكر منها:
1. على صعيد "عقيدة الأمن القومي الأمريكي":
حيث اقتصرت هذه العقيدة في العقود الماضية على تصور "تهديدات إستراتيجية" من جانب عدو خارجي، يُهَدِّد الأرض أو المصالح الأمريكية، سواء كانت دولة أو عدة دول يمكن تحديدها، ويمكن الرد عليها في حالة نشوب عداء متبادل، وطُوِّرت هذه العقيدة بعض الشيء في السنوات الأخيرة لتتضمن مخاطر إما من قِبَلِ دول أو منظمات تمثل تهديداً إستراتيجياً للولايات المتحدة الأمريكية، لكن بإمكانها الأضرار بمصالحها سواء داخل الولايات المتحدة الأمريكية أو خارجها.

أما الآن، فإن هذه الهجمات تُغير تلك الرؤى، حيث ظهر أن هناك منظمات أو مجموعات من الأفراد قد تكون قادرة على تشكيل وتنفيذ "تهديدات إستراتيجية" ضد الولايات المتحدة، تشل الحياة السياسية والاقتصادية بالداخل، وهو ما يمثل بالتأكيد انقلابا في الفكر الأمني والإستراتيجي الأمريكي، والذي يضع على المحك كل أنماط التفكير السائد بما فيها مشروع الدرع الصاروخي، الذي تأسس وفق الرؤية التقليدية لتصور التهديدات والمخاطر.

2. الاتجاه نحو تكثيف آليات الأمن الداخلي
وهذا يعنى تشديد الرقابة على حركة المواطنين، خاصة في المرافق الكبرى والمزدحمة، وزيادة نشر كاميرات المراقبة في المناطق العامة، وهذا الأمر كان ينمو ببطء، ولكن وتيرته تسارعت بعد أحداث سبتمبر، إذ أصبحت أجهزة الرقابة قادرة على رصد وتصوير أي حادث في أي مكان بالمدن الرئيسية، وهذا التطور يقلق كثيراً منظمات حقوق الإنسان، ويفقد الأفراد الشعور بالخصوصية في ظل مراقبة دائمة.

3. القيود التي تفرض على الجاليات العربية والإسلامية:
حيث أصبحت هذه الجاليات تُعانى من قيود إضافية ومراقبة لصيقة لأنشطتها، بل وإغلاق بعض الجمعيات الخاصة بها، وفى السنوات الأخيرة عانت هذه الجمعيات بالفعل من حملات تشويه كبيرة، كما عانت الجاليات الإسلامية من حملات تشويه أوسع، هذا بالإضافة إلى الانحياز ضد الجاليات في التشريعات، كما كان واضحاً في تشريع "قانون الأدلة السرية" الذي صُمِّمَ ضد المشتبه بهم من المسلمين، حيث يحاكمون دون أن يعرفوا أو يعرف محاموهم تفاصيل الأدلة التي تدينهم، علاوة على التحريض ضد الجمعيات الإسلامية والعربية على مواقع الإنترنت.

4. زيادة تطرف الجماعات اليمينية:
زيادة تطرف الجماعات اليمينية وبعض المنظمات الأمريكية، ومهاجمتها للإسلام والمسلمين، بل والمطالبة بطردهم أو الحد من وجودهم.

رابعاً: بعض الإجراءات والقرارات الداخلية والتي تتعلق بالأمن القومي الأمريكي في ضوء أحداث 11 سبتمبر
1. إنشاء مكتب للأمن الداخلي:
في 20 سبتمبر 2001، أعلن الرئيس الأمريكي بوش، إنشاء مكتب جديد تابع للبيت الأبيض أطلق عليه مكتب الأمن الداخلي، وعيَّن توم ريدج حاكم ولاية بنسلفانيا مديراً لهذا المكتب، وقبل ثمانية أشهر من حلول الذكرى السنوية الثانية لهجمات سبتمبر، تحول هذا المكتب إلى وزارة كاملة للأمن الداخلي برئاسة ريدج، تقوم بالتعامل مع القضايا الأمنية.

وأعلن ريدج، أن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الأمريكية لمكافحة الإرهاب عقب الهجمات، جعلت الولايات المتحدة الأمريكية أكثر أمناً، وزادت من استعدادها للتعامل مع هذه التهديدات، مقارنة بأي وقت مضى، كما أشار ريدج كذلك إلى إنشاء "المركز المتكامل لمواجهة التهديد الإرهابي"، والذي مهمته التنسيق بين الأجهزة الأمريكية المختلفة العاملة في مجال الاستخبارات، كما أكد أن الحكومة اتخذت العديد من الإجراءات للتأمين على الشاحنات والسفن والطائرات المتجهة للولايات المتحدة من نقطة انطلاقها، مع نشر أجهزة قياس حساسة في مختلف المواقع الحيوية في المدن الأمريكية للكشف مبكراً عن وقوع هجمات مختلفة وأسلحة محظورة.

2. إصدار قوانين مكافحة الإرهاب وأمن الطيران
حيث وافق الكونجرس الأمريكي على عدد من القوانين لتأمين الجبهة الداخلية ضد الإرهاب، أهمها ما عرف باسم القانون الوطني الأمريكي لعام2001، وقد تقدمت الإدارة الأمريكية بهذا المشروع بعد أحداث 11 سبتمبر بوقت قليل، ووافق عليه الكونجرس بأغلبية كبيرة، وقد تضمن هذه القانون، العديد من المواد التي دعمت من سلطات أجهزة الأمن الأمريكية في مواجهة الإرهاب.

ومن هذه المواد:
أ. إعطاء المدعى العام الأمريكي سلطة احتجاز الأجانب المشكوك في قيامهم بأنشطة إرهابية لمدة سبعة أيام دون توجيه اتهام لهم.

ب. إعطاء السلطات الفيدرالية الحق في التنصُّت على أجهزة التليفون المختلفة، التي يستخدمها الأفراد المشتبه فيهم وتسجيلها.

ج. أنه من حق أجهزة البحث الجنائي وأجهزة المخابرات المشاركة في المعلومات المتعلقة بالإرهابيين، كما أعطى القانون وزارة الخزانة سلطات أكبر لتُجمِّد الأرصدة المالية التي يُشتبه بأنها تستهدف تمويل عمليات إرهابية.

د. كما نص القانون على زيادة أعداد قوات حرس الحدود على الحدود الشمالية للولايات المتحدة ثلاثة أضعاف، كما وافق على النصوص الخاصة بأمن الطيران والمطارات، حيث أصبح أمن المطارات -وفقاً لهذا القانون- ولأول مرة مهمة فيدرالية.

3. إصدار الرئيس بوش، أمراً تنفيذياً بإنشاء محاكم عسكرية لمحاكمة غير المواطنين المتهمين بالإرهاب، وخاصة أعضاء تنظيم القاعدة، أو هؤلاء الذين قاموا بمساعدتهم في القيام بالأعمال الإرهابية أو توفير الحماية لهم.

واستناداً للأمر التنفيذي، فإن الرئيس بوش وحده ستكون له سلطة تحديد مَنْ يُمثل أمام هذه المحاكم من المتهمين، لتصدر المحكمة أحكامها بأغلبية الثلثين، ويمكن أن تصل أحكامها إلى الحكم بالإعدام، كما أن قراراتها نهائية، وغير قابلة للاستئناف.

4. إعادة هيكلة وزارة العدل
لعبت وزارة العدل دوراً هاماً في حملة مكافحة الإرهاب برئاسة وزير العدل الأمريكي جون اشكروفت، فبالإضافة للدور التقليدي لوزارة العدل في التحقيق ومكافحة الإرهاب، فإنها اهتمَّت أيضاً بمنع عمليات إرهابية في المستقبل، وكما قال اشكروفت -في جلسة استماع أمام الكونجرس- لا يمكن أن ننتظر الإرهابيين ليقوموا بضربتهم من أجل أن نقوم بإجراء التحقيقات وعمليات القبض عليهم، بل يجب أن نمنع أولاً ثم نحاكم ثانياً.

كما أنشأت الوزارة وحدة خاصة لتعقب الإرهابيين الأجانب ومنعهم من دخول الولايات المتحدة، والقبض على الموجود منهم داخلها، وقد بدأت وزارة العدل عملها في مكافحة الإرهاب وبالتحقيق في أحداث 11 سبتمبر عن طريق التعرُّف على الدول التي جاء منها مختطفو الطائرات، وتعرف على تاريخهم بالولايات المتحدة الأمريكية عن طريق معاملاتهم المالية والاتصالات التي قاموا بها، ليصبح الهدف بعد ذلك هو محاولة الوصول للأشخاص الذين يحتمل أنهم قدَّموا لهم المساعدة أو كانوا على علم بتلك العمليات أو عمليات أخرى في المستقبل.

5. إجراءات أخرى لحماية الأمن الداخلي
كذلك اتخذ عدد من الإجراءات الأخرى التي تهدف لحماية الأمن الأمريكي منها:
أ. قيام وزارة الخارجية الأمريكية في منح تأشيرات سفر للولايات المتحدة الأمريكية للذكور من العرب والمسلمين ما بين سن 16 إلى 45 سنة، من 25 دولة مختلفة، حتى تقوم سلطات الهجرة والمباحث الفيدرالية بإجراء تحريات أمنية عنهم.

ب. زيادة دوريات الشرطة حول خطوط البترول والغاز والكباري والأنفاق والطرق الرئيسية التي قد تكون عرضة لهجمات إرهابية.

ج. حظر الطيران فوق المفاعلات النووية، مع تشديد الإجراءات الأمنية حولها.